IMLebanon

أخطر المتآمرين على القضية الفلسطينية هم حملة لوائها وأدعياء الزَّود عنها

 

استفاق العالم بأسره صبيحة يوم السَّبت الفائت الموافق في السابع من تشرين الأول الحالي على حدث عسكريٍّ غير مسبوق مشدوهاً لما يعرض على شاشات الفضائيَّات العالميَّة والمحليَّة، تحت عنوان «طوفان القدس»، حدث سيكون له مدلولاته وأبعاده على المستويين العسكري والجيوسياسي، وسيخلِّده التاريخ كمناورة عسكريَّةٍ غير مألوفة، وسيدرَّسُ في أهم المعاهد العسكريَّة، لأهميَّةِ النتائج العسكريَّة التي حقَّقها من حيث مقدار الخسائر البشريَّة والماديَّة التي استطاع حفنةٌ من المقاومين إنزالها بعدو عالي التَّسليح، خلال وقت قياسي، وبأدوات بدائيَّة وبأساليب بسيطةٍ ولكنها على جانب كبير من الذَّكاء.

منذ اللحظة الأولى لانطلاق العمليَّة العسكريَّة، والتي بدت كلعبة أطفال أو نشاطٍ ترفيهي، بدا أن النَّصر حليف المخططين والمنفذين، أما من كتب لهم التَّمتُّع بمشاهدها الأولى ومتابعة مستجدَّاتها وتمعَّنوا فيها، أيقنوا، ومنذ السَّاعاتِ الأولى، أن الأمور آيلةٌ إلى مزيد من التَّصعيد العسكري والسِّياسي، على الرَّغمِ من حالةِ الإرباك التي أصيب بها صناع القرار في الكيان الإسرائيلي نتيجةَ عجزهم عن الإحاطةِ بما حصل ويحصل، لاقتصار معلوماتهم على ما يصلهم عبر وسائل الإعلام التي كانت تتناقل صور كبار قادتهم العسكريين والأمنيين ما بين أسير وقتيل، وبدا قادته فاقدي روح المبادرة لأوَّل مرَّة في تاريخهم السياسي عاجزين عن إطلاع الرأي العام الإسرائيلي على مجريات ما حصل ويحصل على الأراضي الفلسطينيَّة التي كانوا يُحكِمون سيطرتهم عليها منذ نكبة العام 1948.

الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على أرض فلسطين صراعٌ مستدام ومفتوحٌ على مصراعيَّه منذ النكبة، إذ تاريخ الصِّراعِ حافل بالمجازر والاعتداءات الإرهابيَّةُ التي كان ضحيَّتها الشَّعب الفلسطيني، أمَّا قطاع غزَّة فجولاتُ القتال فيه كانت متتالية، لأن حاله كانت أشبه بحرب مفتوحةٍ على مصراعيها، وقد تفاقمت في السنوات الأخيرة من حيث وتيرتها ونوعيَّةِ الأسلحةِ المستعملة فيها، من البر والبحر والجو؛ فبحر غزَّةً مرتعاً للبوارج الإسرائيليَّة، وسماؤها فضاءً ملائماً لعربدةِ أحدث الطَّائرات الحربيَّة، وأرضها مسرحاً لاختبار الأسلحة الفتّاكة، وأزيز المسيَّرات يقلق آذان الأطفال على الدَّوام.

رئيس الكيان الإسرائيلي متلطياً حلف حلفائه اليمينيين المتشددين في تعنصرهم دأبوا على التَّرويج للإستيطان وحضِّ المُستوطنين على التمادي في الاعتداء على المواطنين الفلسطينيين والتَّطاول على المقدَّساتِ الدينيَّة الاسلاميَّةِ والمَسيحيَّة، وأمعنوا في تغافل التَّحذيراتِ والمناشدات الدَّوليَّة من مغبَّة التَّمادي بهذه الممارسات اللاإنسانيَّة، لجأ إلى حُلفائه الغربيين المتصهينين أو الدَّاعمين للحركةِ الصَّهيونيَّةِ العالميَّة لمناشدتهم الوقوف إلى جانبه ونجحَ في تصوير الكيان الغاصب على أنه ضحيَّة أصحاب الأرضِ التي غزاها هو وأمثاله من الإسرائيليين الذين توافدوا إلى فلسطين منذ الحرب العالميَّة الأولى، وللأسف لقد لاقى آذاناً صاغيةً لدى معظمهم، في حين أن تلك الآذات كانت صمّاء تجاه استغاثاتِ الأطفال والنساء والكهول الفلسطينيين طوال عقود من الزَّمن.

وكأنَّه مكتوبٌ على الفلسطينيين تحمّل الانتهاكاتٍ الإسرائيليَّةِ الغاشمة، من دون أن يتاح لهم مجرَّدَ الشكوى للهيئة العامَّة للأمم المتَّحدة والتي لم تعرف التَّوافق أبداً، ومجلس أمن ثبت عجزه عن القيامِ بأدنى واجباته تجاه القضيَّة الفلسطينيَّة. وأنه قدِّر عليهم تحمُّل الضربات العسكريَّةِ الصهيونيَّة المباغتة التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي، والاكتفاء برمي بعض الأطفال للحجارة والتي استعيض عنها بصَواريخ غير دقيقة يتاح لهم إطلاقها بعد أن يتمكن الإسرائيليون من الإحتماء منها في ملاجئهم الحصينة، إلى أن يمُنّ عليهم العدو بإعلان وقف إطلاق النَّار بعد إنزال خسائر فادحة بشعب أعزل ومجرَّد من أدنى مقومات الدِّفاع عن نفسه. في العدو، وهذا الوضع بالنسبة للفلسطينيين ما هو إلّا خيارٌ بين خيارين «نحرٍ أو انتحار».

من حق الفلسطينيين أن يحلموا بأن يكونوا مبادئين ولو لمرَّة واحدة في القتال، كي يذيقوا العدو الأصيل شيئاً مما أذاقهم على امتداد قرن من الزَّمن، وللحدِّ من الخسائر التي من المقرر أن ينزلها بهم عاجلا أم آجلا. خطيئةُ الغزاويين هذه المرَّة تكمن في تجرَّئهم على أن يكونوا مبادئين في القتال لا متلقّين. ولو بوسائل بسيطة وأساليب شبه بدائيَّة أخرجوها بتكتيكات ذكيَّة، حقَّقت أهدافاً غير متوقَّعة.

لم يتفاجأ العالم بأسره من تجدّد جولات القتال بين الفلسطينيين والصهاينة المغتصبين لأرضهم، إنما المفاجأة كانت بإطلاق الفلسطينيين لشرارة القتال على خلاف ما اعتاد العالم عليه. وخاصَّة أنه لم يكن ليدور في خُلد أحد أن الشَّعب الفلسطيني المُحاصر والمغلوب على أمره قادرٌ على التَّفكير بخطواتٍ جريئة تمكّنه من إعادة الاعتبار إليه، وشدِّ الرأي العام العالمي إلى حقوقه المشروعة وكرامته المنتهكة جرَّاء حملات التَّنكيل والاعتقال التي ترتكبها سلطات الاحتلال، وتعدياتِ المُستوطنين وتدنيسهم لأماكن العبادة، ولأولى قبلتي المسلمين وكنيسة المهد حيث قيامة السَّيد المسيح.

إن المظليين الغزاويين الذين استقلوا الدراجات لمسافاتٍ طويلةٍ في عمليَّة غير مسبوقة كانوا يعون أن مجرد احتمال وجود مروحيَّة عسكريَّة في الأجواء كفيل بإنهاء حياتهم، ورغم ذلك، اتَّخذوا القرار في أن يكونوا مشاريع شهداء سواء بالجو أو خلال مواجهتهم لجحافل الجيش الإسلرائيلي المدجج بأحدث التَّجهيزات والأسلحة الفتَّاكة، ورغم قلَّة حيلتهم استطاعوا بإمكانيَّاتهم المتواضعة وبأوقاتٍ قياسيَّة من تحقيق نتائجَ تفوق كُلَّ التَّوقُّعات، ونجحوا في كسر جبروت العدو بعنجهيَّته المعهودة، وصلفه اللامحدود.

لقد حقق المقاتلون الفلسطينيون الأشداء بعمليَّتهم المحكمة الإعداد والتَّحضير، والتي نجحوا في إحاطتها بسريَّةٍ مُطلقة، أكثر مما كان متوقَّعاً من العمليَّة، وما عجزت عن تحقيقه الجيوش العربيَّة مجتمع؛ وبغضِّ النَّظر عما ستؤول إليه الأمور في ما بعد، يمكننا القول أنهم انتصروا نصراً مبيناً، حتى وإن لم يحصدوا نتائجه اليوم إلَّا أنها ستتظَهَّرُ في ما بعد، ولو على أيدي مهادنين ومطبعين ومتاجرين عرب وفرس، سيستغلون نتائجَ هذه المنازلةِ التي ستدفع بالكيان الإسرائيلي إلى التخلي عن تغطرسه والسَّعي لإبرامِ تسوية شاملة تضع حدًّا للصراع العربي – الإسرائيلي تجنُّباً للمزيد من الأثمان؛ والغالب وفق روحيَّة المبادرة العربيَّة التي أطلقها ولي العهد السعودي المغفور له عبد الله بن عبد العزيز، والتي تقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام والتي تكفل إقامة دولة فلسطينيَّة عاصمتها القدس الشَّرقيَّة على الأراضي التي احتلَّت بعد العام 1948، لاستحالةِ استمرار إسرائيل في تغطرسها وتَطاول على الشَّعب الفلسطيني ومقدَّساته، أقول مقدَّساته، لتخلي العالمين المسيحي والإسلامي عن الدِّفاع عن مقدَّساتهما وتعريضها لدنس الصَّهاينة.

تقتضي الموضوعيَّة منا القول: أن الفلسطينيين لا يعولون الكثير على الدُّولِ العربيَّة لأنهم خبروها من تراكمِ المهانات والإذلال والخزي والخنوع والاستسلام والتَّسليم بما يملى عليهم. ولطالما وقف بعضهم كشهود زور على عمليات الإبادةٍ الجماعيَّة التي تعرَّض لها الشَّعب الفلسطيني منذ عقود، وها هم اليومَ يؤكدون على تخاذلهم المتوارث، وربما سيكشف المقبل من الأيام أن بعضهم متواطئ على القضيَّة الفلسطينيَّة، ويغسل يديه من الدَّم الفلسطيني بإلقاء التهمة على محور الممانعة وعلى إيران على وجه الخصوص؛ وهذه الأخيرة بدورها ليست ببريئة من المآمرة ولا المقامرة بالدم الفلسطيني لمآرب خاصَّة بها، وها قد سحبت يديها أيضاً ونفت على لسان مرشدها علاقتها بهذه العمليَّة المباركة، تاركةً الشَّعب الفلسطيني يتحمّل ثأر العدو الإسرائيلي الغاشم، بعد أن أتحف منظِّروها العالم أجمع بشعار وحدة السَّاحات، والكل يعلم أنها تقف خلف حماس وتدعمُها ولا يمكن لهذا التنظيم مهم عظم شأنه المبادءة بالحرب من دون إيعاز مسبق من إيران.

وآسفاه، إن أوَّل المتآمرين على القضيَّة الفلسطينيَّةِ هم من يدَّعون تبنّيها والمتظاهرين بالدِّفاع عنها؛ بعضُ العرب يمننّ الفلسطينيين أنه أنفق الكثير من الأموال على قضيَّتهم، وبعضٌ آخر جوَّع شعبه بحجَّة الاستحصال على الأسِّلحة للدِّفاع عنها، ولكن سرعان ما استعملت مخزونات الأسلحةِ لإبادة الشَّعب الذي دفع ثمنها من عرق جبينه، عندما انتفض على سياسات القهر والتَّجويع، وخير مثال على ذلك ما حصل في كل من العراق وسوريا وليبيا والسودان، ولم يستطع البعضِ إخفاء مشاعر الشّماتة بالفلسطينيين تقرُّباً بإسرائيل بحجَّة توقي خطر إيران وأذرعها، والتي تتلطى تحت شعار تحرير القدس، ولكن ما يعملُ به على أرض الواقعِ تفتيتٌ للدُّول العربيَّة بإثارة النَّعرات الفئويَّة وتقليب بعض المكونات على الأنظمة القائمة.

كم هي معيبة ومحبطةٌ تلك المواقف التي تنتهجها الدُّول العربيَّةُ والإسلاميَّة حيال ما يحصل في غزَّة، كالاكتفاء بالتنديد بالأعمال الإسرائيليَّة الهمجيَّة، أو المناداة بوقف العنف أو بإدانته، في الوقتِ الذي بادرت فيه الولايات المتحدةِ الأميركيَّةِ وبعض الدُّول الغربيَّة إلى إسباغ المشروعيَّةِ على انتهاكات إسرائيل مع علمها أنها تنطوي على جرائمِ حرب وإبادة جماعيَّة، وفتحت خزائنها ومخازنها واقامت جسراً جويًّا لمدِّها بالأموال وأحدث الأسلحة والذخائر والتَّجهيزات العسكريَّة. وكم هو مخزٍ تناحركم وإثارة النَّعرات الفئويَّةَ في ما بينكم.

أيها العرب وغير العرب من مدعي التَّقارب بين الأديان والمذاهب، إن الفلسطينيين ليسوا بحاجةٍ لتنديداتكم، ولا لتصريحاتكم الدَّاعيةِ للتهدئة ووقف العنف، ولا للمساعداتِ الطُّبيَّةِ والغذائيَّة ولا لرمي صواريخ عمياء على مناطق مفتوحة وأهداف وهميَّة، لتمننونهم بها، أو لتتلطون خلفها لتبرئة ساحتكم وتبرير تخاذلكم وتآمركم عليهم، الفلسطينيون وإن مزَّقتهم القنابل العنقوديَّة إرباً وأحرقت أجسادهم الذخائر الفوسفوريَّة أو سقطوا شهداء فإن أكثر ما يألمهم هو تخاذلكم، وإن استشهدوا بهذه الحرب فيموتون مرتاحو الضَّمير، لأنهم صانوا كرامتهم وحافظوا على عنفوانهم على خلاف الكثيرين ممن تخلوا عن شهامتهم وحميتهم. واعلموا أن العدوَّ الذي تمالقون سيستفردَ بكم بعد أن مكنتموه من الاستفرادِ بغزَّة والنيل منها.

أيها العرب، إن اجتماع مجلس الخارجيَّة العرب لا يسمن ولا يغني عن جوع بعد أن قرعت طبول الحرب، لأن أقل الواجبِ يملي تداعيكم لقمَّة عربيَّة استثنائيَّة طارئة تستوجبها حراجة الوضع، المتأتية عن سعي الكيان الإسرائيلي لتهجير أهالي غزة ورميهم خارج القطاع بغطاء غربي، كما فعل بمئات الآلاف من قبلهم وسيحكم قبضته على القدس الشَّريف؛ عليكم المبادرة فوراً باتخاذ موقفٍ موحَّد مشرِّفٍ يقضي بإلغاء مفاعيل الاتفاقاتِ الثنائيّة مع هذا الكيان ووقف كل أشكال التَّطبيع، والمبادرةِ إلى مدِّ أهالي غزَّة بكل أنواع الدَّعم العسكري والمعنوي، والتَّهديد بحربٍ شاملة ما لم تتوقف أعمال التَّدمير الممنهج للقطاع، والتي تنطوي على إبادة جماعيَّة، وإلَّا ستكونون أمام مطالبات شعبيَّة بوقف الإنفاق على جيوش مخصيَّة لانتفاء الحاجةِ إليها، وكي لا تبقى عالة على شعوبها، أو أداةً طيِّعةً بيد الحكام تستعمل حصراً للتطاول على دُول شقيقة أو للتنكيل بالشعوب التي تنفق عليها من عرق جبينها.

لقد عرَّى طوفان القدس الكثير ممن يتسترون بلبوس العروبة والثورات الإسلاميَّة، وأماط اللثام عن مناوراتهم التَّآمريَّة والاستئثاريَّة، وجرَّدهم من معاني الكرامة والعنفوان، وسيجرفهم مع وحول المهانة والخنوع إلى مُستنقع الخزي والعار إلى يوم القيامة حيث يحصحص الحق ويزهق الباطل، وتبيض وجوهٌ وتسود أخرى. أما المطلوب فهو صحوة ضمير قبل فوات الأوان وكي لا يسجِّل التاريخ أن أخطر المتآمرين على القضيَّة الفلسطينيَّة هم حملة لوائها وأدعياء الزَّودِ عنها.