بسيط مَن يعتقد أنّ حدود التدخّل الجويّ الروسي تقتصر نتائجه على الحرب الدائرة في سوريا فقط، وساذج مَن يُشكّك في وجود تفاهم أميركي – روسي على مشروع كبير في الشرق تتولّى فيه كلّ دولة ضبطَ حلفائها.
في الأمس «أفرَجت» الدوائر العسكرية الرسمية في كلا البلدين عن القرار القاضي بالتنسيق الجوّي بينهما، وهو قرار تمّ التفاهم حوله قبل انطلاق طائرات «السوخوي» في الأجواء السورية، وأُعلن عنه أمس.
وقبل ذلك استكملت واشنطن سحب صواريخ «الباتريوت» الموجودة على الاراضي التركية. صحيحٌ أنّ الخطوة الأميركية جاءت في إطار تنفيذ برنامج وُضع سابقاً، لكن كان يمكن تعديل موعد سحب هذه الصواريخ خصوصاً في ظلّ المستجدّات في المناطق السورية المحاذية لتركيا والخرق الجوّي الروسي للأجواء التركية مرّتين وإطلاق البحرية الروسية صواريخها من بحر قزوين الى سوريا.
تركيا أعلنت أمس موافقتها الرسمية على بقاء الرئيس بشار الأسد لفترة انتقالية لا تتجاوز الستة أشهر. لكنّ هذه الفترة ستكون خاضعة للتعديل عند بدء المفاوضات الجدّية، خصوصاً مع إيران التي تتمسّك بإنهاء الأسد ولايته الدستورية والسماح له بالترشّح لولاية أخرى.
والموقف الإيراني قابل للتعديل أيضاً لدى الجلوس الى طاولة المفاوضات، خصوصاً في ضوء ما نقل عن مسؤول إيراني رفيع من لندن من أنّ إيران لا ترى استمراراً أبدياً للأسد في السلطة.
ولا شكّ في أنّ استقبال موسكو للاسد في هذه المرحلة يحمل معاني كثيرة، خصوصاً أنّ الزيارة تستبق زيارة أخرى سيقوم بها الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز لموسكو بعد نحو اسبوع. السعودية لا تبدو مستاءة من روسيا التي حيّدت التنظيمات المحسوبة عليها عن الاستهداف الجوّي تمهيداً لتكون المملكة الطرف الدولي الوحيد الذي سيتحدث باسم المعارضة في التسوية المقبلة.
وبخلاف السيناريوهات العسكرية المختلفة التي يُروَّج لها، فإنّ موسكو متمسكة بقوة بعدم إطالة حملتها الجوّية لكي لا تغرق لاحقاً في الرمال المتحرّكة ومعارك الاستنزاف وحيث تشكّل حلب تحدّياً جدّياً في هذا الإطار. ومع انقضاء ثلاثة أسابيع على بدء الحملة يبقى أمامها زهاء الثلاثة اشهر قد تُمدّد لفترة اقصاها شهرين اضافيين في حال استدعت الحاجة.
زيارة الأسد لموسكو تعني إطلاق المرحلة الديبلوماسية والمفاوضات حول سوريا الى جانب العملية العسكرية، وزيارة الملك السعودي أساسية في هذا الشأن. لكنّ خطواتٍ كثيرة كانت قد أُنجزت في الكواليس بهدف وضع المفاوضات لاحقاً امام أمر واقع وإلزامها سقفاً محدَّداً سلفاً.
فخلال الأشهر الماضية، زار اللواء علي مملوك مصر ثلاث مرات أنتَجت تركيز آلية للتعاون الأمني بين البلدين وتبادل المعلومات، وهو ما تحتاجه مصر بقوة بسبب الأعمال الإرهابية التي تعاني منها خصوصاً في سيناء، في مقابل إعادة فتح السفارة المصرية في دمشق مطلع السنة المقبلة، على أن يتولّى أحمد حلمي رئاسة البعثة المصرية بدرجة قائم بالأعمال. وحلمي تجمعه علاقات جيدة ببعض المسؤولين الأمنيين السوريين كسَبها عندما عمل في سفارة بلاده في بيروت كقائم بالأعمال.
إذاً المسار التفاوضي الصعب يتمّ تركيز قاعدته، وقد لا يحظى باندفاعته القويّة إلّا مع الانتهاء من معركة حلب المصيرية حيث قد يكتفي الجيش السوري ومعه «حزب الله» بانتزاع كلّ مناطق الريف وإحكام الحصار على الجزء الذي تسيطر عليه التنظيمات داخل المدينة، بما معناه شطب حلب من المعادلة الميدانية للمعارضة.
وتبدو روسيا متفائلة بذلك في ضوء ما يتردّد عن نجاح طائراتها بتدمير مئات المواقع الأساسية للتنظيمات المحسوبة على تركيا وقطر والتي قيل إنها تقارب الـ 600 موقع.
لكنّ ورشة الدخول الروسي العريض الى الشرق الأوسط من البوابة السورية لا يتوقف هنا، وإلّا فما معنى إنشاء تلك القواعد العسكرية الهائلة في الشمال السوري؟
زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو لموسكو كانت لوضع الحكومة الإسرائيلية في أجواء التدخل الروسي، وزيارة رئيس الاركان الروسي لتلّ أبيب كانت لتنظيم العمل العسكري، حيث تردّد أنّ إسرائيل لا تُحبّذ الطائرات الروسية جنوب سوريا وفوق دمشق كونها أصبحت في المجال الامني الجوّي الحيوي لها، وفي المقابل رسمت روسيا خطاً يُحدّد مجال أمن طيرانها ويمنع الجميع من الاقتراب منه وهو سماء الشمال السوري ويصل الى حدود أجواء مدينة جبيل اللبنانية.
لكن وبعيداً من التنسيق العسكري، هناك ما هو أهم ويتعلق بالتسوية السلمية مع إسرائيل. فليس من باب المصادفة اشتعال الوضع واندلاع ما يشبه الانتفاضة مع الحملة الجوّية الروسية. وليس من باب المصادفة أيضاً ظهور كلام داخل الصف السياسي الإسرائيلي أنْ لا محال من تقسيم القدس في إطار حلّ الدولتين، وأخيراً وليس آخراً كلام السيد خامنئي ذو السقف المرتفع حيالَ القضية الفلسطينية.
عندما وصل باراك أوباما الى البيت الابيض، وضَع مشروع حلّ الأزمة الفلسطينية في رأس اهتماماته، لكنّه ما لبث أن اصطدم بتعنّت نتنياهو ليدخل معه في خلاف عاصف ما أدّى الى إقفال الملف وفق عبارته الشهيرة: «لقد حرقت أصابعي».
ولكن مع تعيين جون كيري قيل إنّ وزير الخارجية الجديد وعد رئيسه بإنجازٍ على المستوى الفلسطيني قبل رحيله عن البيت الابيض، والمعروف عن كيري خبرته الواسعة في هذا الملف.
اليوم ومع دخول الشرق الأوسط في مرحلة تاريخية جديدة، وفيما الجميع محشور بالنزاع السوري وحساباته المعقّدة، تبدو الأمور أقلّ صعوبة للدخول الى الملفّ الفلسطيني أيضاً. إيران الرافضة التسوية مع إسرائيل والتي ساهمت في تأجيج «الانتفاضة» الفلسطينية تبدو أمام خياراتٍ محدودة نتيجة الواقع السوري الجديد واستلام موسكو زمام المبادرة الميدانية، وبعد إنجاز الملفّ النووي.
إسرائيل بدا تأثيرها متواضعاً بعد الدخول الروسي العريض واندلاع الاضطرابات مع الفلسطينيين. والسعودية أصبحت جاهزة لتأمين الغطاء العربي والإسلامي المطلوبين.
في الخلاصة مشاريع كثيرة أوسع من الساحة السورية بدأت وستُصيب الساحة اللبنانية، إن كان انطلاقاً من التسوية السورية، أو حتى تلك المتعلّقة بالنزاع مع إسرائيل ووضع «حزب الله». ولهذا شرح آخر في المرّة المقبلة.