إذا كانت عملية «حماس»، «طوفان الأقصى»، هي الشرارة التي أشعلت الحرب في غزة، فإنّ قرار إسرائيل منع المصلّين من دخول المسجد الأقصى، خلال رمضان، قد يكون الشرارة التي ستشعل الحرب في الضفة الغربية. في الشرارتين الأقصى موجود، ما يُذكّر بأنّ للنزاع طابعاً دينياً أيضاً. ولأنّ النزاعات الدينية لا تتوقف عند حدود سياسية، فالآتي أعظم في غزة والضفة وسائر المشرق.
سارعت حكومة بنيامين نتنياهو الأحد الفائت، إلى قطع الطريق على أي مفاوضات سياسية، بإعلانها رفض الاعتراف الأحادي بفكرة الدولة الفلسطينية. وخطورة هذا القرار أنّه حظي بالإجماع داخل الحكومة، ولم يقتصر على الفريق الأكثر تطرّفاً.
هذا الموقف يقطع الطريق على مساعي إدارة الرئيس جو بايدن لوقف حرب غزة وإنتاج تسوية للملف، ما يسمح للمملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى استكمال المسار نحو التطبيع.
والتحدّي الذي يواجهه بايدن هو: ماذا سيفعل لإحداث خرق في الشرق الأوسط يستثمره في معركته الانتخابية الحرجة، في نهاية العام؟ والجواب هو أنّه لن يفعل شيئاً على الإطلاق، لأنّه لا يمتلك أدوات الضغط الحقيقية على الإسرائيليين، خصوصاً أنّهم جميعاً موحّدون حول رفض فكرة الدولة الفلسطينية.
لقد حاول المفاوض الفلسطيني من زمن مؤتمر مدريد واتفاقات أوسلو أن يقطف اعترافاً إسرائيلياً بدولة فلسطينية، لكن ذلك لم يحصل. وحتى الوعود بتثبيت كيان فلسطيني يتمتع بنوع من الإدارة الذاتية، بعد إبرام اتفاق أوسلو بـ 5 أعوام، تبخّرت، وتضاعفت المساحات التي زرعتها إسرائيل بالمستوطنات. واليوم، غزة مهدّدة تماماً بالتهجير والتدمير.
ليس هناك سوى السذج يمكنهم أن يصدّقوا أن نتنياهو يخشى الضغط الأميركي، وأنّه سيوقف الحرب قبل أن يحقّق الهدف في رفح، وأنّ مصر ستتمكن من التصدّي لعملية التهجير عندما تصبح أمامها بحجمها الكارثي إنسانياً.
وللتذكير: في الأسابيع الأخيرة، برزت ملامح مثيرة في مصر. ففيما المفاوضات تدور على أرضها حول ملف الأسرى ومستتبعاته، يجري ترتيب لبقعة مستوية من الأرض، محاذية للحدود مع غزة، تحضيراً لبناء وحدات سكنية، ويدور همس حول احتمال استيعابها جزءاً من نازحي رفح المتوقع أن يفوقوا المليون نسمة، وقد يجري توسيعها لتستوعب الآخرين.
لكن هناك مؤشرات أكثر أهمية في الاقتصاد، إذ تتعرّض مصر لضغوط مالية ونقدية هائلة، وكذلك في السياسة، إذ بدا لافتاً موقف وزير خارجيتها سامح شكري، على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن، وفيه أنّ «حماس» لا تشكّل جزءاً من الإجماع الفلسطيني. وهذا الموقف له ترددات عميقة على ملف غزة.
سيرضخ الأميركيون والأوروبيون لسعي الحكومة الإسرائيلية إلى إنهاء الوضع في رفح، وفي غزة عموماً، على طريقتها. فهم عاجزون عن القيام بأي شيء هناك، كما محشورون أكثر فأكثر في أوكرانيا. وهم يطالبون إسرائيل بوقف استهداف المدنيين، لكنهم لا يستطيعون إجبارها على ذلك. ولأنّ نتنياهو يدرك هذا الأمر، فهو يمضي في خطته الرامية إلى تعطيل أي مسار سياسي حتى ينتهي من ترتيب الأمور على الأرض.
وعلى العكس، يُخشى أن يكون نتنياهو قد بدأ التحضير لأزمة جديدة في الضفة الغربية، بحظر وصول «فئات» معينة من المصلّين إلى المسجد الأقصى، خلال شهر رمضان الذي يبدأ بعد أقل من ثلاثة أسابيع.
لا شيء يستفز المصلّين الفلسطينيين، من أرض العام 1948 والقدس والضفة الغربية، أكثر من حظر دخولهم إلى الأقصى، وستكون الترددات عميقة. وليس سراً أنّ الإسرائيليين أعدّوا خططاً قديمة لتهجير أهالي الضفة إلى الأردن، تماماً كما تهجير أهالي غزة إلى مصر. فهل يرتكب نتنياهو ورفاقه عملاً جنونياً بفتح الأزمة النائمة في الضفة، في الوقت الأميركي والدولي المحشور، تزامناً مع حرب غزة؟
يوحي نتنياهو بأنّه مستعد للدخول في مفاوضات سياسية حول الملف الفلسطيني برمته، لكنه لن يفاوض «حماس»، بل السلطة الفلسطينية. لكن القوى الإسرائيلية كافة، باتجاهاتها السياسية والعقائدية المختلفة، متفقة على التصور النهائي للملف الفلسطيني ولا تتراجع قيد أنملة. فهي جميعاً تريد تصفية القضية الفلسطينية بكاملها، وبالتأكيد، لا توافق أي منها على فكرة الدولة الفلسطينية، لا من قريب ولا من بعيد.
وفي الواقع، أقصى ما يسمح به الإسرائيليون هو إنشاء «سلطة» فلسطينية لا «دولة». فالسلطة، على غرار ما هي قائمة اليوم، من دون سيادة وأدوات، تكاد تكون مجرد بلدية كبيرة أو محافظة، بصلاحيات إدارية محدودة، فيما المستوطنات تقضم مناطق هذه السلطة من داخلها وخارجها حتى تكاد تبتلعها بكاملها.
لذلك، كل الكلام على المفاوضات السياسية والتسويات الممكنة ليس سوى تغطية لإمرار المخطط الحقيقي الذي يعمل له الإسرائيليون، أي التذويب التدريجي للملف الفلسطيني، بحيث يأتي اليوم الذي لا يعود ممكناً الحديث عن قضية للفلسطينيين ودولة وشعب.
والمنتظر، في الأيام والأسابيع الآتية، لا سيناريوهات تفاوض من أجل التسوية بل سيناريوهات مواجهة دراماتيكية، في رفح وسائر غزة، وربما في الضفة. وعلى ضفاف هذه المواجهة، كل شيء وارد في لبنان.