(إلى أرواح الملائكة ليان (10سنوات) وتالين (12) وريماس (14)
في حضن جدتهن المرحومة سميرة أيوب)
وإلى أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتّحدة أطال الله بعمرك.
أغطّ حبري الأحمر بروح الملائكة ليان وتالين وريماس شهيدات الجنوب. ولتشهق النصوص والنفوس بملاحم غزّة وفلسطين كوارث متراكمة منذ 76 عاماً حتى «طوفان الأقصى». في البحث عنكم، ها أمامي عنوان بريدكم الإلكتروني وأنت القائل عند تسلّمكم المنصب:
«ستمكث الكرامة الإنسانية في جوهر عملي». قرّرت أن أرسل لكم هذا النصّ بعد نشره في «صحيفة اللواء» اللبنانية، وأنت تُجيد 4 لغات، مذكّركم بمشروع حلّ القضية الفلسطينية الدولية التي توصّل إليها جورج ميتشل الذي شغل منصب الأكثرية في مجلس الشيوخ الأميركي (1989-1994) خلال ولايتي الرئيسين الأميركيين جورج بوش وبيل كلينتون.
أوّلاً، فلسطين رفيقتي حضرة الأمين العام ولدت معها في الـ1948 وأنت ولدت في الـ1949. مكانك كان يجلس جدّنا فارس الخوري من الكفير جنوبي لبنان في الـ1947-1948 رئيساً لمجلس الأمن كما لهيئة الأمم المتحدة مندوباً لسوريا. منذ صباي سيّدي، كان يصرخ والدي بأن أسدُل الستائر عند حلول كل مساء قائلاً: «نحن في حالة حربٍ دائمة مع العدو الإسرائيلي». ربّينا وفلسطين هي الجرحٍ النازفٍ أبداً في جرارنا وفي وجه البشرية القبيح بحثاً عن استرجاع أبسط حقوقه الإنسانية. عندما سألته عن تلك الستائر قال: نحن لم نعرف النوم وطعم الهناء منذ ولادتك وولادتها وكانت مهمتك أن تغطّي مآسي الجنوب قبالتنا بمقاومة الستائر الممزّقة المتعدّدة الألوان في عالمٍ ممزّق متعدّد الألوان والعقول أيضاً. هي تحميك وتحمينا. اليوم صار الجنوب مقاومة.
ثانياً، علمت في باريس بعد عقود، أنّ سيدة إسمها ماري سعد هي من الكفير عينها، هاجرت إلى أميركا، وهناك تبنّت ولداً فقيراً نبيهاُ كان جارها وهو جورج ميتشل السياسي الأميركي المعروف وإبن حارس المبنى الإيرلندي الذي كانت تقطنه. ساعدته هناك على إكمال دراسته في القانون الدولي حيث كان يعمل سائقاً وحارساً ليليّاً أثناء دراسته ليبدأ حياته محامياً برع ثم مدّعيا عاما ثم قاضيا مرموقاً.
اعتُبر ميتشل صاحب المواهب الخارقة في فنون التفاوض والحوار. حلّ ميتشل أزمة إيرلندا، لكنّ الصراع العربي – الإسرائيلي بقي عاصياً يتجرجر في رأس الأمم منذ 76 سنة حتى حلول «طوفان الأقصى» أمامك، ونراه يتعاظم بصفته العلامة الفارقة الضخمة والخطيرة في البحث الدولي الأكثر من ضروري عن السلام والعدالة وتحديداً عن حل الدولتين الذي هو البداية والنهاية وفق خلاصات جورج ميتشل وقناعاته. إنّ أعمار الدول وأعمارنا جميعاً وأعمار الطفلات الشهيدات الفراشات اللبنانيات اللواتي ضمّخن نصّي هذا بالرحمة والأحزان، تماماً كما مشاهد الأطفال الصغار والرجال الكبار والكبار الكبار كلهم وكلّنا رهائن الإعتبار الدولي والسؤال:
أيبقى السؤال البشري مُقيماً معتلاًّ أبداً في الإنتظار؟
يمكنني الجزم، سيّدي ، بأن شلاّلات الصور المتدفٌقة من فلسطين والتي هزّت فظائعها البشرية عبر شاشات الغابات الدولية قد تذهب إلى نسيان. لكن… سيبقى السؤال الذي لا يمكن فهم المقاومات من دونه:
ماذا تفعل الشعوب حين تُقلع من جذورها Roots سوى مقاومة الأجيال المتلاحقة التي تصرخ بالعدالة نطفاً في الأرحام وطلباً للحياة والحقوق والأرض والمدرسة والدولة؟
أمامكم مناظر الجحيم كلها في غزّة، وأذكّركم بنص تقرير «لجنة ميتشل» عن أوضاع الأراضي المحتلة فألصقه بالدماء فوق جبهة الأمم. وضعته لجنة شرم الشيخ لتقصي الحقائق التي شُكّلت في مؤتمر سلام الشرق الأوسط في 25 أيار 2001 بحثاً جدّياً عن أسباب العنف الذي اندلع في فلسطين في أيلول من العام 2000، وهنا لبّ الموضوع ومنعاً لتكرار الكوارث أتصوّر أن مسألتين جوهريتين قائمتين في وجه أيّ حل وفقاً لجورج ميتشل:
المستوطنات والقدس.
ثالثاً، في المستوطنات والأماكن المقدسة كتب جورج ميتشل في تقريره: «تتحمّل حكومة العدو الإسرائيلي وحدها مسؤولية المساهمة في إعادة الثقة. ومن الصعب جداً المحافظة على وقف العنف بين الفلسطينيين والإسرائيليين إذا لم تُجمد الحكومة الإسرائيلية كل نشاطات بناء المستوطنات، وعلى حكومة إسرائيل أن تدرس جيداً ما إذا كانت هذه المستوطنات التي تشكّل نقاط احتكاكٍ حقيقية وسائل مهمة للمقايضة في مفاوضات مستقبلية أو مكامن استفزاز قادرة على أن تحول دون بدء مفاوضات مثمرة».
وكتب ميتشل: «منذ تأسيسها قبل نصف قرن، تمتّعت إسرائيل بدعم قوي من الولايات المتحدة الأميركية التي كانت، في المحافل الدولية، الصوت الوحيد القوي والمؤيد للعدو الإسرائيلي، ولكن حتى في علاقات متينة إلى هذا الحد، كانت تقوم بعض دواعي الخلاف ومن أبرزها معضلة المستوطنات». وقد علّق جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركية آنذاك:
«في كل مرة قصدت فيها العدو الإسرائيلي لمهمة تتعلق بعملية السلام… كنت استقبل بإعلان عن نشاط استيطاني جديد. هذا انتهاك لسياسة الولايات المتحدة، ومسألة الاستيطان هي أول مسألة يثيرها الفلسطينيون في أراضيهم الذين يعيشون في وضع بائس حقاً، كما يثيرها العرب جميعاً. ولا أظن أن هناك عقبة تعترض السلام أكبر من العقبة التي يشكلها النشاط الاستيطاني الذي يستمر، لا بصورة مستمرة وحسب، بل بصورة متسارعة». هذه السياسة التي عبّر عنها بيكر، تمثّل في جوهرها، كما تابع ميتشل، «سياسة كل إدارة أميركية على مدى الثلاثة عقود المنصرمة. ولطالما انتقدت مجمل البلدان وفي طليعتها تركيا والنروج ودول الاتحاد الأوروبي سياسة الاستيطان الإسرائيلي المُحاشرة، لكونها غير شرعية في القانون الدولي وتتعارض مع كلّ الاتفاقيات السابقة».
حول الأماكن المقدسة، كتب ميتشل بأنه «من المؤسف للغاية أن تتحول أماكن مثل الحرم الشريف/جبل الهيكل في القدس، وقبر يوسف في نابلس، وقبر راحيل في بيت لحم إلى مسارح للاستيطان والعنف والموت والسجون، تلك أماكن سلام وصلاةٍ وتأمّل يجب أن تكون مفتوحة لكل الديانات».
رابعاً: أين نحن اليوم؟..
كنّا بانتظار شيء ما، فكان «الطوفان» الشامل بعدما تراكم الخوف والحقد والغضب، وتعاظم الخطر الأكبر وتحطّمت ثقافة مقاربة السلام بسبب الإمعان الإسرائيلي في تخريب المقدسات وانتهاكها كما في ربط السلام بتجميد المستوطنات في الإعلام الإسرائيلي، مع أن إسرائيل كانت تُمعن بتوسيع المستوطنات حيث لا فرق بين المستوطنات الجديدة والموسّعة. طبعاً لن يرتسم بعد الطوفان قوس التسويات ونوافذ التفكير في مقولة السلام العادل والشامل، لكنني قرّرت، وأنا أتابع قراءة التقرير الذي لا تتسع المساحة لأهميته، أن أعنون مقالي نصّي إليكم بـ «علك التاريخ الملوث» إشارة إلى من في فمه خليط حبر وماء ودماء لا يبلع ولا يبصق منذ 8 قرون تقريباً. ولو دققنا هذا الخليط في الأجران وسقناه إلى المصافي الدولية سيبقى مرّاً ولو كانت الأجران قد تحطّمت في مطارح القدس وزواياها، لكنها ستبقى تقرع أبواب السياسة الدولية وآذان كبارها بخواء «أحجار المطاحن الدولية» الفارغة والعاجزة والدائرة حول نفسها ولو تغيرت الأمكنة والأزمنة والدول والرئاسات، فلم يرشح عنها، في يقيني، نقطة زيتٍ صافية تحل مداميك الصدأ العالق طبقات في السلوك الدولي والأممي.
إنّ غابات الأطفال والبيوت الترابية والقصور وسهول الزيتون المقلوعة والمحروقة أمامنا في الشاشات في فلسطين وجنوبي اللبناني لا تُرينا سوى الطرق الترابية المحفوفة بالشوك مفتوحةً للإمعان في مقاومة أحجار المطاحن والجرافات وأسلحة الدنيا والطائرات ولو بالنطف العارية التي تتجوّل في الأنفاق وفوقها قطعاً مهشمة الأعضاء والوجوه والثياب والأعمار.
إلامَ الانتظار، سيدي الأمين العام، أمام تلك المطاحن الدولية العاجزة عن قصد وتحيّز من إعلان الدولتين سجادة أمام الباب أو ملاطاً لشقوق كثيرة لا تستقيم ولم تصلب ولو لدقائق في بناء الأوهام والأكاذيب بحثاً عن السلام الملفوف بالأوهام.
أيبقى العالم، سيدي، أمام معضلة دولية متعسّلة بالدماء والأحزان والقهر في تاريخ البشر لكأنّه معضلة تجوّف اليهودية والمسيحية والإسلام والأديان والأنظمة والمؤسسات الدولية والنواميس والقوانين والإنسانية جمعاء للحفظ على العالم مجنوناً عاجزاً عن فكّ عقدة الحل الممكن لا المستحيل؟
* كاتب وأستاذ جامعي