Site icon IMLebanon

السّلاح الفلسطيني المتفلّت يوقظ هواجس من يعايشونه خارج المخيّمات

 

أبعد من التوتر الأمني الذي اندلع في مخيم عين الحلوة في الأسبوع الماضي، فقد أثارت الاشتباكات المسلّحة التي شهدها المخيّم، إشكالية السلاح الفلسطيني المتفلّت من الضوابط، سواء أكان هذا السلاح داخل المخيمات أم خارجها، ليثير التساؤلات المتكرّرة عن جدوى التمسّك به في معسكرات منتشرة بعيداً عن خطوط المواجهة مع العدو الإسرائيلي، ولا سيما في البقاعيْن الأوسط والغربي. بالمقابل فقد طرحت هذه التوتّرات علامات استفهام عديدة حول أداء السلطة السياسية، والذي تدهور مع أحداث عين الحلوة نحو إطباق كلّي للفم. وكأنّ السلطة السياسية غير معنية بما يجري في المخيّم أو خارجه، إلا بقدر ما تتأثر مكوّناتها الحزبية بهذه التوترات.

 

فهي لم تدرج أحداث عين الحلوة على جدول أعمال جلستها الحكومية التي انعقدت يوم الخميس الماضي. ولا استبقت ذلك باجتماع وزاري موسّع أو مصغّر، أو حتى اجتماع لمجلس الأمن المركزي، يؤمّن أقلّه غطاء سياسياً لحسم عسكري يوقف المناوشات «الغريبة» على أرضه، ويُخضع المتقاتلين، أياً كانت خلفياتهم، لأنظمة السيادة الوطنية. فلم تُستنفر الدولة وأجهزتها، إلا عندما وجّهت السعودية ومعها دول خليجية أخرى صفعة جديدة للبنانيين، عندما دعت رعاياها، على خلفية اشتباكات عين الحلوة، لمغادرة الأراضي اللبنانية، مخلّفة إحباطاً إضافياً لدى من كانوا قد بدأوا يستبشرون بموسم اصطياف يؤمّن توازناً مرحلياً ولو نسبياً للوضع الاقتصادي.

 

غير أن أداء السلطة السياسية الحالي ليس استثنائياً بالنسبة إلى فقدان الحسم حول مسألة نزع السلاح الفلسطيني غير الشرعي. بل تبدو السلطة منذ سنوات وكأنّها غير معنية بأي تطوّر متعلّق بهذا السلاح، حيث كان لافتاً صمتها حيال الانفجار «المشبوه» الذي وقع بقاعاً في موقع قوسايا العسكري التابع للجبهة الشعبية – القيادة العامة قبل نحو شهرين، من دون أن تبحث عن حقيقة هذا الانفجار وتداعياته الفعلية، على رغم ادّعاء «القيادة العامة» يومها تعرّضها لغارة جوية إسرائيلية حصدت خمسة من عناصرها على الأقلّ.

 

ومع ذلك يترقّب أهالي القرى التي تصادر المعسكرات الفلسطينية جزءاً من أراضيها في البقاع، أيّ تبدل في هذا الأداء بعد أحداث عين الحلوة، وخصوصاً بعدما شكّلته المخيّمات وأحداثها من منصة لتمرير رسائل إقليمية جديدة. ويعوّلون بالتالي على أن تشكّل عبثية التوتّرات التي ظهرت صعوبة ضبطها، دافعاً كافياً لاتّخاذ الإجراءات التي تمنع تسلّلها إلى خارج المخيّمات. أو أقّله لإعادة فتح ملف السلاح الفلسطيني المتفلّت، داخل المخيّمات وخارجها، والبحث الجدّي بإخضاعه لقرار مجلس الأمن 1559 والذي قضى بسحب كل سلاح غير شرعي بعد انسحاب الجيش السوري، ومن ضمنه السلاح الفلسطيني.

السلاح خارج المخيّمات

 

لا شكّ أن السلاح الفلسطيني شكّل معضلة فعلية بالنسبة للبنان منذ اتفاق القاهرة. وكان هذا الاتفاق وليد تضامن وتعاطف عربيين مع الفلسطينيين، ألزم لبنان في سنة 1969 على الاعتراف بالوجود السياسي والعسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي حمى السلاح الفلسطيني من المحاولات المتعدّدة لنزعه. وعليه حافظ هذا السلاح على اعتراف الشرعية الرسمي به حتى ما بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في سنة 1982.

 

في هذه الأثناء كانت «القيادة العامة – الجبهة الشعبية» قد بدأت تنقل مواقعها اللوجستية إلى البقاع، وتحديداً إلى قرى السلسلة الشرقية التي تفصل بين لبنان وسوريا، لينفلش السلاح الفلسطيني على أكثر من موقع، ويسمّى بـ»السلاح خارج المخيمات».

 

خضع جزء من «السلاح خارج المخيّمات» لإمرة «فتح- الإنتفاضة»، وكان يتوزّع في بلدات المنارة، الصويري، عيتا الفخّار، في البقاع. غير أنّ الجزء الأكبر منه لا يزال بإمرة «القيادة العامة الجبهة الشعبية»، التي سيطرت بدورها على مواقع جبل المعيصرة، أكبر المعسكرات الفلسطينية الموجودة في بلدة قوسايا في السلسلة الشرقية، حشمش، عين البيضا، لوسي، وحلوى، إلى جانب موقع الناعمة في الدامور. هذا مع العلم أنّ «القيادة العامة» كانت تشغل مواقع أيضاً في تعنايل والروضة، ولكنها أعادت انتشار عتادها وعناصرها فيهما إلى المعيصرة إثر انسحاب الجيش السوري. وكذلك تراجعت «فتح- الإنتفاضة» بمواقعها نحو الأودية النائية في السلسلة الشرقية في وادي الأسود – بلطة – حلوة – دير العشائر، وهي مواقع يتمّ الوصول إليها عبر الحدود غير المرسّمة نهائياً بين لبنان وسوريا.

 

حافظ الفصيلان على معسكراتهما البعيدة عن مواقع المواجهة مع إسرائيل حتى بعد قرار إلغاء اتفاقية القاهرة الذي وقّعه رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميل في سنة 1987 والذي كان قد وافق عليه حينها مجلس النواب، ووقّع عليه لاحقاً رئيس الحكومة سليم الحص.

 

 

التمسّك بالسلاح

 

وعلى الرغم من تسليم بعض الفصائل الفلسطينية سلاحها إلى الدولة اللبنانية بعد اتفاق الطائف، نزولاً عند ضغوطات إقليمية وعربية مورست عليها، فإنّ «الجبهة الشعبية» و»فتح- الإنتفاضة» تمسّكتا بسلاحهما خارج المخيّمات، خلافاً لما ورد في مقدمة اتفاق الطائف، ولم تتمكّن الدولة اللبنانية وﻻ قياداتها من نزعه منذ ذلك الحين. بالنسبة «للجبهة الشعبية» فقد استفادت من العلاقة القوية التي ربطت مؤسسها وأمينها العام أحمد جبريل بالنظام السوري. فبدا عصر سيطرة النظام على لبنان، سياسياً وأمنياً، عصراً ذهبياً بالنسبة لها. فسوّق جبريل لأهمية مواقعه على الأراضي البقاعية في هذه الفترة، بكونها أساسية كمواقع إسناد للجبهة الأمامية. كما ربط هذا التواجد للسلاح خارج المخيّمات بمهمة حماية الفلسطينيين في المخيّمات. هذا مع العلم أن الوجود السوري في لبنان ومن ثم احتكار «حزب الله» مفهوم المقاومة، ألغى هذا الدور بالنسبة للفصائل الفلسطينية، فصار سلاحها يوظّف في خلافاتها الداخلية، لينفجر بين الحين والآخر معارك بين فصائلها، كما حصل أخيراً في مخيم عين الحلوة.

 

مصالح سوريا

 

وانطلاقاً من هنا لا يمكن للقراءات الموضوعية لواقع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، إلا أن تربط بين الاحتفاظ بهذا السلاح ومصالح سوريا المستمرة في الأراضي اللبنانية. هذه الحقيقة ثبتت منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان. إذ شكّل حينها تعرّض فريق التحقّق الدولي من هذا الانسحاب لإطلاق نيران في الهواء على مدخل مركز حشمش ببلدة دير الغزال، رسالة التحذير الأولى للداخل اللبناني كما للمجتمع الدولي، «من تداعيات المسّ بهذا السلاح». فلم يتمكن الفريق الأممي من اختراق حصانة الموقع، وانسحب مكتفياً بتدوين الحادثة في محاضره، من دون أن يتغير شيء في واقع هذا المعسكر أو مواقع «الجبهة الشعبية» الأخرى المنتشرة في البقاع منذ أكثر من 18 سنة على انسحاب الجيش السوري من لبنان.

 

هذه المؤشرات ثبّتتها أيضاً تصريحات صحافية لمؤسس الجبهة أحمد جبريل إثر انسحاب الجيش السوري، رفض من خلالها الدعوات إلى نزع سلاح الفصائل الفلسطينية في لبنان. وكان أبرزها ما ورد على لسانه في خطاب ألقاه في مخيم اليرموك حينها إذ قال: «لقد أثاروا فجأة مسألة السلاح وتحديداً سلاح جبهتنا، ولقد فهمنا أنّ هذا جزء من التطبيق الأميركي للقرار 1559» محذّراً من كون البدء بهذا السلاح يعني الإنتقال الى سلاح المقاومة اللبنانية.

 

وهكذا تحوّلت هذه المواقع «ثغرة أمنية» استخدمت لإطلاق الرسائل أو تلقّيها بين لبنان وسوريا من جهة، ولتبادل هذه الرسائل مع إسرائيل من جهة ثانية، بالإضافة إلى استغلال هذه المواقع في توجيه الرسائل إلى خصوم سوريا، حيث كادت تورّط لبنان في المعادلة العسكرية للمعارك التي خاضها النظام السوري مع معارضيه.

 

الأحداث التي شهدتها سوريا منذ العام 2011 عزّزت الإعتقاد في المقابل بأنّ النظام السوري خلّف «دملة» هذه المعسكرات حماية لخاصرته. في هذه الفترة ارتفعت وتيرة تنسيق المعسكرات الميداني مع النظام السوري وحليفه اللبناني، أي «حزب الله»، بما سمح بتوظيف هذه المعسكرات في تأمين الإمدادات العسكرية إلى الداخل السوري ولا سيما خلال معارك القلمون. وهذا ما أبقى هذه المواقع موضوع جدل بالنسبة لأهالي القرى التي تتوسّطها.

 

لم تعد هذه المعسكرات إذاً تخفي حقيقة دورها الفعلي على الأرض اللبنانية. بل كان كلام المتحدث باسمها أنور رجا بمنتهى الصراحة عندما اعتبر «أن أي عملية عسكرية تستهدف النظام السوري عمل موجّه ضدنا»، مهدّداً من يشترك في العدوان على سوريا بأن مصالحه ستصبح هدفاً مشروعاً في المنطقة.

 

مقرّرات لجنة الحوار

 

هذه التطوّرات جاءت بعد سنوات من قرار جامع صدر عن لجنة الحوار الوطني، أجمع للمرة الأولى بعد خروج سوريا من لبنان في سنة 2006، على سحب السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وعلى تنظيم هذا السلاح داخلها بوضعه تحت إمرة الدولة، مع العلم أنّه حتى «حزب الله» كان قد وافق حينها على هذا القرار، ما جعل لجنة الحوار تحدّد مهلة ستة أشهر فقط لتطبيقه. إلا أنّ تطبيق هذا القرار إصطدم بعدم توفر التوافق الفلسطيني- الفلسطيني أولاً، والفلسطيني– اللبناني ثانياً. في وقت بدا الرئيس الفلسطيني حينها محمود عباس أضعف من أن يتمكّن من فرض إرادته السياسية على فصائل فلسطينية مسلحة تتمتّع بعلاقات واسعة مع سوريا. وعليه استمرّ النقاش طويلاً حول سحب السلاح الفلسطيني خارج المخيّمات، حتى ما بعد أحداث نهر البارد ومعركتها مع الجيش اللبناني. لتواجه السلطة مجدداً عندما ذكّرت بقرار لجنة الحوار بعد نحو أربع سنوات، بتصريح نادر صدر عن أمين سر حركة «فتح الإنتفاضة» سعيد موسى المعروف بـ»أبو موسى»، اعتبر فيه أن السلاح الفلسطيني المنتشر خارج المخيمات «وجد ليس ضمن معادلة لبنانية لبنانية، هذا السلاح أتى أو وجد ضمن معادلة صراع عربي إسرائيلي». ودافع عن هذا السلاح من خلال التأكيد على «أن سلاحنا خارج المخيمات لم يشكل أي إساءة للأمن اللبناني، ونحن حريصون على أن نكون تحت الرؤية اللبنانية بمعنى الأمن اللبناني». كما رفض «أبو موسى» حينها نقل سلاح حركته المنتشر خارج المخيّمات إلى داخل المخيّمات، معتبراً أنّه «لا ضرورة لمزيد من السلاح في المخيمات لأن الموجود يكفي».

 

المفارقة حينها أنّ تصريح «أبو موسى» الذي أكد أن السلاح لم يشكل أي إساءة للأمن اللبناني، جاء عقب حركة تمرّد قادها العقيد الفلسطيني في «الجبهة الشعبية» دريد شعبان الذي كان مسؤولاً لوجستياً في معسكر تلة عين البيضا، على خلفية إقالته من موقعه. إذ شهد أهالي البلدات المدنيون المقيمون في محيط معسكري قوسايا وعين البيضا شهب النيران التي أطلقها المتقاتلون، تمرّ من فوق رؤوسهم. وقد اتّهمت الجبهة الشعبية حينها «شعبة المعلومات» في قوى الأمن الداخلي بافتعالها الأزمة.

 

هذه الأحداث والتصريحات، إلى جانب ما يحصل راهناً في عين الحلوة، جدّدت الهواجس بالنسبة لأهالي هذه القرى من التداعيات الأمنية التي يمكن أن تستدرجها المعسكرات المتواجدة في العمق السكني لأهالي البقاع، سواء جاءت هذه التداعيات نتيجة للغارات الإسرائيلية المتكرّرة على مواقعها، أو بسبب خلافات داخلية، أو ترجمة لإقحام هذه المعسكرات في ملفات سياسية وأمنية عابرة للحدود بين لبنان وسوريا. لتطرح مجدداً تساؤلات الأهالي المزمنة عن جدوى الحفاظ على المواقع البعيدة عن مواجهة «العدو الإسرائيلي»، والتي تحوّلت بالنسبة لهم، أراضي ومشاعات محتلة، يمنع عليهم حتى الإقتراب منها، إلى أن تعثر الدولة في مكان ما على حلّ نهائي لإنهاء وجودها.