… ويبقى الوطن في حاجة الى قانون جديد، ينظّم السير على الطرق المؤدية الى الرياض وطهران وباريس وواشنطن، وعواصم دول القرار.
زحمة سير خانقة في اتجاه عواصم الدول المؤثرة والمطلوب أن لا تفقد «البوسطة» توازنها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في باريس. الرئيس سعد الحريري في واشنطن، قبل أن يغادرها الى محطة أخرى.
وزير الخارجية جبران باسيل معلّق ما بين الأرض والسماء، يتناول «الصفيحة البعلبكيّة» صباحاً في البقاع، قبل أن ينضمّ الى اجتماع بروكسل بعد الظهر مع نظرائه الأوروبيين. حركة واسعة، زحمة سير خانقة في اتجاه عواصم الدول المؤثرة، والمطلوب أن لا تفقد «البوسطة» توازنها، وتتهاوى فوق المنزلقات القاتلة.
تتميّز هذه الحركة بنمط ميثاقي، وتستند الى ورقة عمل وطنية، تُحدّد الأولويات، من الإسراع في انتخابات رئاسيّة، الى قانون انتخاب جديد، الى انتخابات نيابيّة، الى حكومة وحدة وطنيّة منبثقة، الى وضع موازنة عامة، الى تبنّي مخطط إصلاحي – تنموي، الى التصدي لمشكلة النازحين واللاجئين، والمقيمين بطريقة غير شرعيّة، الى سائر التحديات والاهتمامات الوطنيّة الكبرى.
ورقة ليست موجّهة ضد أي طرف، إلّا الذي يجد نفسه أسير مواقفه وخياراته ورهاناته، ويصنّف نفسه في الموقع البعيد عنها. إنها واضحة تماماً، أولوياتها لبنانية محليّة داخليّة، تبدأ بالاستحقاق الرئاسي، لتشمل كلّ الفراغات في الدولة والنظام والمؤسسات، وتتناقض مع من يرى أنّ الأولويّة للطموحات الخارجيّة من سوريا الى العراق، الى اليمن، الى الضفة الغربية وقطاع غزّة، وإسرائيل.
الإنتظار عنده مفيد. إنه سلاح يعوّل عليه لترتيب أولوياته الخارجيّة بهدوء وإتقان، قبل أن يعود الى الداخل، فيما الانتظار عند سائر اللبنانيين سلاح قاتل، الفراغ يتمدد، المؤسسات تترهّل، الوضع الإقتصادي يقفز من أزمة الى أخرى، الأرض تموج بما فيها وعليها، ماذا يعني وجود أكثر من مليونين ونصف المليون لاجئ ما بين سوري وفلسطيني، وجنسيات متعددة، وثقافات وخصوصيات مختلفة؟
ماذا يعني ولادة ما بين 27 الى 35 ألف طفل سوري كلّ شهر فوق الأراضي اللبنانية؟ قد يكون، بالنسبة اليه، أمراً عاديّاً، مرحّباً به كونه ينسجم مع استراتيجيته الغامضة، في حين أنه غير عاديّ، وغير طبيعي بالنسبة الى غالبية اللبنانيين، لأنه تدميري بكل المقاييس.
نجح في اعتماد أسلوب «الأمر الواقع» يفرضه حيناً عن طريق الحوار، وأحياناً كثيرة عن طريق القوّة. جديد اليوم مختلف عن السابق، لم تعد الجبهة الداخلية متماسكة حول خياراته، راهنَ كثيراً على «8 آذار»، رفع ما يكفي من الشعارات الشعبويّة البرّاقة، جاء تورّطه في اليمن ليكشف غياب الدعم والإحتضان. ليست «14 آذار» في ذروة عزّها، ومجدها، وتألّقها، بدأ يصيبها العفن من أطراف عدّة، لكنّ «8 آذار» في وضع مزرٍ، هزلت، شاخت، وفقدت كثيراً من مقوّمات صمودها، واستمرارها.
لم يعد محور المقاومة جاذباً، لم تعد الحيويّة السورية مُخصبة، لقد جفّ ضرعها، وفقدت كثيراً من مساحيق التجميل. لم تعد الشعارات الشعبوية مُستنهضة للهمم، محفّزة للإرادات، لقد قصمت القشّة اليمنيّة ظهر الثقة، ولم يعد الخلاف على عناوين سياسيّة صغيرة، أصبح حول الوطن، والصيغة، والنظام، والتركيبة المؤسساتية.
البعض يريد للبنان أن يمتطي جواد الحل السريع للحفاظ على مقوّماته، او ما تبقّى منها، فيما البعض الآخر يريده مطيّة تتناوَب عليها كل ملفات المنطقة، ونوائبها، وتحدياتها حتى إذا ما أدركت الحلول التي يرتأيها، عندها يُصار الى النظر في الحلول المطلوبة للأزمة في لبنان.
ثمّة قلق كبير يؤرق مرجعيّة وطنيّة شيعيّة بارزة. ترى من منظارها الخاص أنّ القوى الميثاقيّة الكيانيّة تعود الى الإنصهار للإمساك بلبنان الكيان، والنظام، والصيغة نتيجة التعطيل الحاصل، والحرص الدائم لدى البعض على أخذ لبنان الى حيث يريد، لا بل الى حيث تريد مرجعيته الخارجيّة.
ترى أنّ الذهاب الى اليمن، والدخول في مواجهة غير مبررة، وغير متكافئة مع المملكة العربيّة السعوديّة، مغامرة لا تسعفها حجّة، ولا يبرّرها منطق، ولا يمكن للمناكب الوطنية العريضة ان تتحمّل مثل هذه التداعيات التي قد ترتد على مصالح لبنان واللبنانيين.
… يتأقلم اللبنانيون هذه الأيام مع قانون سير جديد، فيما تسعى الغالبية النخبوية الى قانون سير يحفظ لـ«البوسطة الوطنية» توازنها، ويُجنّبها الإنزلاق فوق المنحدرات القاتلة، في زمن تزدحم فيه الإستحقاقات الإقليميّة – الدوليّة على أبواب الصيف، عسى أن يكون للإستحقاقات اللبنانية نصيب منها.