لا يحتاج اللبنانيون إلى جهد كبير ليكتشفوا أن ثمة فارقاً كبيراً بين خطاب رئيس تيّار المستقبل سعد الحريري، أمس، وخطاب رئيس التيار الوطني الحر ميشال عون في الآونة الأخيرة.
المفارقة بين الخطابين تتجاوز المقاييس الجغرافية التي تباعد بين الحريري وجمهوره قسراً، وتفرض عليهما الغياب عمداً، مع كل ما يَنتج عن مثل هذه الحالة من معاناة وإحباطات، إلى ما هو الأهم في العمل الوطني، والتمسك بالثوابت والمبادئ الوطنية التي تقوم عليها صيغة العيش والتفاهم بين اللبنانيين.
في حين أن خطاب عون في الأسابيع الأخيرة، خرج عن الثوابت الوطنية، وراح بعيداً في لغة التهديد والتصعيد، ناقضاً كل مبادئ العيش المشترك بين اللبنانيين، شاهراً سيف الفيدرالية، وكأنها خشبة الخلاص وضمانة المستقبل للمسيحيين!
وإذا حاولنا وضع عنوان موجز للفرق بين الخطابين، فليس أفضل من القول: المفارقة بين الاعتدال والانتحار!
* * *
مُستهجَنَة هي اللهجة التي اعتمدها عون في خطابه السياسي، منذ لاحت أمامه صعوبات وصوله إلى قصر بعبدا، فبدا وكأنه عاد ربع قرن إلى الوراء، واسترجع خطاب التحريض والتقسيم، بهدف شد عصبية طائفية متوترة، اختلفت ظروف ومعطيات إثارتها اليوم، عمّا كانت عليه في نهاية الثمانينات، وأول التسعينات، والتي تجلّت يومها في معارك انتحارية مدمرة، خاضها عون عبر حربي التحرير والإلغاء، وصولاً إلى معركة 13 تشرين الأوّل التي أنهت التمرد العوني على الشرعية الوطنية والدستورية، وأخرجته من قصر بعبدا.
كثيرون من اللبنانيين، اعتقدوا لفترة، أن «الجنرال» تجاوز أخطاء تلك المرحلة العاتية، واستفاد من عِبَرها، وأدرك أهمية العودة إلى الخطاب الوطني مع الشريك المسلم في البلد، لا سيما وأنه تكبّد غالياً أثمان معارضته لاتفاق الطائف، وما أنتجه من دستور جديد، بعد اعتماده ميثاقاً وطنياً جامعاً يرضي كل اللبنانيين.
الصدمة الكبرى للأكثرية الساحقة من اللبنانيين، لا سيما المسيحيين، هو وضع عون حصوله على الرئاسة الأولى، بموازاة تدمير الصيغة اللبنانية، القائمة على التوازن عبر المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وعلى الشراكة في اتخاذ القرارات وإدارة السلطة، عبر مجلس الوزراء، المنوطة به السلطة التنفيذية، والذي يحضر جلساته رئيس الجمهورية، بما يمثل المركز المسيحي الأول في هرم الدولة.
فعمد أولاً إلى تعطيل جلسات انتخاب رئيس الجمهورية في مجلس النواب، منذ سنة ونيّف، عبر مقاطعة الجلسات وتطيير النصاب القانوني لجلسة الانتخاب، في وقت كان يدّعي الحرص على صلاحيات رئيس الجمهورية، وضرورة تعزيز دوره وصلاحياته!
لم تفلح محاولات بكركي في تحويل رئيس التيار البرتقالي من مرشّح مُتعثر في السباق الرئاسي، إلى ناخب أول لرئيس الجمهورية العتيد، بما يؤدي الى الحفاظ على مكانته في الزعامة المسيحية، إلى جانب «الزعماء الأقوياء» الثلاثة الآخرين: الرئيس أمين الجميّل، الدكتور سمير جعجع والنائب سليمان فرنجية.
ورغم كل المعطيات الداخلية والخارجية التي أكدت عدم إمكانية وصول عون إلى قصر بعبدا، لأسباب لا مجال للخوض في تفاصيلها، رفض جنرال الرابية التسليم بالأمر الواقع، واتبع سياسة الهروب إلى الأمام، عبر طرحه انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرة تارة، والمطالبة بإجراء انتخابات نيابية على تقسيمات القانون الأرثوذكسي تارة أخرى، مما أدى إلى استمرار الشغور الرئاسي، واستفحال تعطيل دور المركز المسيحي الأول في السلطة!
استعجل عون الدخول إلى ملف قيادة الجيش تحت بند التعيينات الأمنية، محاولاً إبعاد أحد أبرز منافسيه في الانتخابات الرئاسية العماد جان قهوجي، عن مواقع السلطة والنفوذ.
وعندما باءت المحاولة الأخيرة بالفشل، بسبب معارضة الأكثرية في مجلس الوزراء للتطرّق إلى هذا الملف قبل استحقاقه القانوني والطبيعي في أيلول المقبل، حرصاً على معنويات المؤسسة العسكرية في هذه المرحلة الأمنية الحرجة، اختار عون مرة أخرى الهروب إلى الأمام، رافعاً السقف، أو بالأحرى ضارباً عرض الحائط بكل السقوف الوطنية والدستورية، مهدداً بالانفجار، أي تفجير البلد، وإسقاط الدولة وطرح الفيدرالية، والعودة إلى التقسيم.. وكل ذلك تحت شعار «الدفاع عن المسيحيين»، وهو الأمر المضحك – المبكي فعلاً!
ولكن ليس في كل مرّة تسلم الجرّة!
وهذا ما حصل الخميس الماضي، وهو يوم أسود جديد في تاريخ التجربة العونية، حيث تحوّلت المعركة الدونكيشوتية في مجلس الوزراء، وفي الشارع، إلى عملية انتحار سياسي للتيار العوني، بالنسبة للأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وفي مقدمتهم المسيحيين، الذين رفضوا الانسياق وراء الممارسات المدمرة للوطن وللوجود المسيحي في لبنان.
* * *
في المقابل، أطل رئيس تيّار المستقبل سعد الحريري على اللبنانيين، مساء أمس، بخطاب سياسي، واضح المعالم باعتداله، وكبير بمضمونه الوطني الشامل، مؤكداً أكثر من مرّة، على رفض أساليب الاستفزاز والتحريض، والتمسك بمبادئ وثيقة الوفاق الوطني، والحرص على قواعد الشراكة عبر المناصفة، واحترام المؤسسات الدستورية، بتفعيل إنتاجيتها، من خلال إعادة الحياة إلى المؤسسة التشريعية، ومراعاة أصول عمل مجلس الوزراء، وصلاحيات رئيس الحكومة.
لقد أظهر الرئيس الحريري في خطاب «الأمل والتهدئة»، حرصاً على التوافق الوطني، ليس فقط بالنسبة لرئاسة الجمهورية، ولكن أيضاً حول كل الملفات الوطنية الأخرى، مكرراً أكثر من مرّة، أن الأبواب مفتوحة أمام جميع المرشحين في الانتخابات الرئاسية، وأن لا فيتو على أحد، ولكن «البلد بحاجة لفرصة لالتقاط الأنفاس وإيجاد المخارج المناسبة».
وكان لا بدّ لزعيم طائفة الاعتدال أن يُؤكّد أيضاً، بأن طائفته وجمهوره ليسوا بمواجهة طائفية مع أحد، بل إن معركتها الأساسية هي ضد الإرهاب من حيثما أتى، خاصة بعدما أصبحت النار السورية على أبوابنا، مذكراً بأن الأولوية كانت وستبقى حماية لبنان من الفتنة.
* * *
المفارقة بين الاعتدال والانتحار، معقدة ومتشعبة، ولكن كل خطوطها تقود إلى إبراز الفارق بين زراعة الأمل ومحاربة الإحباط ، التي يُركّز عليها الحريري، وبين شعارات التحريض والتقسيم، التي تقضي على ما تبقى من آمال لدى المسيحيين، وتزيد إحباطهم إحباطاً!