يتجذّر في فرنسا انطباع بأن ما يجري في دوائر الإليزيه والخارجية الفرنسية، بعد تسلّم الوزير الحالي ستيفان سيجورنيه مهامه، منسجم إلى حدّ لا يمكن معه الكلام إلا عن سياسة واحدة حيال الملف اللبناني بإدارة الرئيس إيمانويل ماكرون.نجاح ماكرون والفريق اللصيق به في ضبط إيقاع المعترضين على سياسة خارجية متعثّرة، ولا سيما بعد اللغط الذي ساد بفعل تعدّد الآراء والسياسات في الملف اللبناني، لا يعني نجاحاً للبنان، إذ أدّت هذه السياسة إلى تضييع لوقت كان يمكن استثماره لإخراج لبنان من أزمته، قبل أن تدخل المنطقة في مرحلة الحرب ولا يعود لبنان من ضمن الأولويات. وتكمن أهمية الكلام الفرنسي في أنه تعدّى مرحلة معالجة الأزمة السياسية والرئاسية، بعدما أضيف إليها ملف الوضع الجنوبي. وفي كلا الملفين، ثمّة كلام عن ثلاثية ماكرون وحكومة تصريف الأعمال وحزب الله التي تأخذ مداها في مقاربة الوضع اللبناني.
مع الأزمة الرئاسية، كان الرهان على دور فرنسي، بدءاً من تثمير المبادرة الفرنسية بعد انفجار الرابع من آب وصولاً إلى استحقاق نهاية عهد الرئيس ميشال عون. ومع فشل متصاعد للمبادرة واتصالات تشكيل الحكومة أكثر من مرة، ومن ثم الدخول بخطى متعثّرة في ملف رئاسة الجمهورية، عانى الدور الفرنسي إرباكات متعددة، ساهم فيها تعدد الموفدين الفرنسيين ودخول أكثر من شخصية على خط الملف الرئاسي، وتعارض وجهات النظر في أحيان كثيرة بين الإليزيه والخارجية والسفارة في بيروت، حتى في التفاصيل الصغيرة.
مع حرب غزة، عاودت فرنسا الأسلوب نفسه، ولكن هذه المرة بأدوات جديدة (وزير خارجية ورئيس استخبارات خارجية جديدان)، وبإمساك الإليزيه بمفاصل اللعبة الخارجية، لكنها انتهت بين اقتراحات وأوراق يجري تبادلها إلى مراوحة أقرب إلى الفشل.
في الملفين، لا تزال الانتقادات والسلبيات أكثر من الإيجابيات، ما أدّى إلى تراجع دور الموفد الفرنسي جان إيف لودريان في الملف الرئاسي، ولو أنه أصبح أكثر حضوراً في العلاقة مع أطراف اللجنة الخماسية. ولا يتعلق ذلك بملاحظاته على القيادات اللبنانية وسوء ممارستها للعمل السياسي، بقدر ما يتعلق بمفهوم عمل مختلف بينه وبين فريق الإليزيه، وهو أمر ينسحب على أكثر من معني بشؤون لبنان.
وفي ملاحظات معمّقة إزاء التعثر الفرنسي في ملفَّي الرئاسة والجنوب، يعيد الإليزيه، رغم ملاحظات إقليمية وداخلية، نسخ الأسلوب نفسه المستمر منذ سنوات رغم أنه أثبت فشله. وهو في إعطائه مجالاً رحباً لحكومة تصريف الأعمال ولحزب الله، ساهم بشكل فعال في عدم التوصل حتى الآن إلى أي ملامح حل للأزمتين الراهنتين. فرغم كل ما يقال، لا تزال الخطوط مفتوحة بين باريس وحزب الله، لكنّ هناك تساؤلات عما قدّمه الحزب حقيقة إلى فرنسا. فحتى الآن ما يظهر هو العكس. أعطت باريس الحزب مجالاً رحباً للتواصل وللانفتاح الفرنسي والأوروبي، وكذلك قدّمت إليه أكثر مما بادرها هو بتقديم ما يؤدي إلى ضمان تسويات سياسية. وثمة انطباع بأن الحزب يبقي قنوات الحوار مفتوحة، لكنه ضمناً ينتظر ما قد يقدّمه الأميركيون فيعطيهم ما لم يعطه للفرنسيين. وتجربة الوساطة المتعثّرة في الجنوب دليل واضح، رغم ما يعنيه لفرنسا بسبب وجود قوة فرنسية عاملة ضمن اليونيفل.
يعيد الإليزيه نسخ الأسلوب نفسه المستمر منذ سنوات رغم أنه أثبت فشله
على الخط الحكومي يمكن القول إن باريس تبقي مجال التنسيق قائماً، وهو ما يجعل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مرتاحاً في دوره، رغم اعتراضات محلية على خطوات تقوم به حكومته في غياب رئيس الجمهورية. هذا الاطمئنان يسمح للحكومة بالتصرف من دون ملاحظات خارجية، ولا سيما من فرنسا التي لولا تغطيتها لما كانت الحكومة استرسلت في مسارها. إضافة إلى تنسيق – الحزب غير بعيد عنه – في مجالات مختلفة ولا سيما الاقتصادية منها، عبر مشاريع تحظى بتغطية الطرفين. ولا يخرج أداء الحكومة عن إطار «تطبيعي» للوضع الداخلي، بفعل اقتناع ضمني بأن باريس لن تقف في مواجهة الحكومة، لمصلحة أطراف سياسية أخرى تعترض على أداء الحكومة دورَ رئيس الجمهورية. وبين حزب الله والحكومة يصبح ملف الرئاسة ضائعاً ولا يتقدم خطوة إلى الأمام. وهذا التعثر لا يتعلق فحسب بملف الجنوب الذي أردات فرنسا من خلاله التعويض عن فشلها السابق وإبقاء خيط رفيع من الاتصالات موصولاً معها، إنما كذلك لأن الانطباع الذي يتكرّس حتى في الدوائر الفرنسية أن ما سيُعطى لفرنسا لن يكون على القدر الذي تشتهيه إدارة ماكرون في لعب دور إنقاذي. فالحل والربط جنوبياً ورئاسياً لا يزالان في يد واشنطن. لكن للأطراف الثلاثة مصلحة في إبقاء التواصل قائماً، وخصوصاً فرنسا من باب الحضور في لبنان ولو شكلياً، حتى تصل اللحظة المناسبة.