Site icon IMLebanon

دلالات لحركية الانتخابات النيابية في بيروت

 

يلاحظ بعض المراقبين لإرهاصات التّحضير للشّأن الانتخابيّ الحاليّ في بيروت، بعض بلبلة وحيرة، في أوساط عديدة؛ خاصّة في ما تعكسه أجواء الرّاغبين في خوض الانتخابات. قد يكون هذا أمرًا طبيعيًّا، فالوقت لم يزل مبكرًا على الموعد المحدّد رسميًّا لإجراء الانتخابات؛ كما أنّ ثمَة قلقًا، بوجود شكوك تنذر بعدم إنفاذها. واقع الحال، يمكن إضافة عامل جديّ، ههنا، يتعلّق بما يمكن تسميته ضياع ما تجاه ما يمكن اعتماده من منهج للانتخابات النّيابيّة»، إن كان في محافظة بيروت أو في سواها.

 

اختبرت الانتخابات النّيابيّة في لبنان عامّة، وفي مدينة بيروت كذلك، منهجين متباينين في التّعبير عن فاعليّتها العمليّة؛ ويمكن اعتبار كلُّ واحد من هذين المنهجين، «لغة انتخابيّة» قائمة بذاتها. استمرّ المنّهج الأوّل منذ عشرينات القرن الماضي، في عهد الانتداب الفرنسي، وتظهّرت لغته بوضوح طاغٍ منذ أوّل انتخابات نيابيّة في العهد الاستقلالي، وما برح فاعلاً في بعض المناطق إلى اليوم؛ في حين بدأ المنهج الثّاني، يحضر منذ مطلع تسعينات القرن العشرين، مع تولّي الرّئيس رفيق الحريري رئاسة الحكومة اللّبنانيّة، وتوطّدت لغته في الشّأن اللّبناني، وصولًا إلى انتخابات 2018.

 

توزّع الشّأن الانتخابيّ النّيابيّ في بيروت، قبل سنة 2018، وعبر المنهج الأوّل وحده، على دوائر انتخابيّة ثلاث. جرت إدارة الحملات الانتخابيّة النّيابيّة ومعاركها، في هذه الدّوائر، قبل الدخول المباشر للرئيس رفيق الحريري إلى معترك الحياة السّياسية في لبنان، عبر قيادة زعامات طائفيّة مذهبيّة. أفرز ما صار يعرف بـ« وثيقة الوفاق الوطنيّ اللّبناني»، الذي توصّلت اليه القوى السّياسية اللّبنانيّة، سنة 1989، منعطفًا بارزًا في تاريخ إدارة السّياسة الدّاخليّة للبلد؛ وتعمّق هذا الأمر، تاليًا، مع دخول الرّئيس رفيق الحريري على خطوط الفاعليّة السّياسيّة المباشرة في لبنان؛ منذ تولّيه مهام رئاسة الحكومة اللّبنانيّة سنة 1992.

 

كانت القيادات، التي تدير تتزعّم الحملات الانتخابيّة، ضمن الهذا المنهج الأوّل، في أغلب الأحيان فرديّة، وإن اتّخذ بعضها، وجهًا حزبيًّا؛ غير أنّ العمليّة الانتخابيّة النّيابيّة في هذه المرحلة ، غالبَا ما كانت ترتكز إلى حضور لزعامة فرديّة تقودها وتقرّر أمورها. كان زعماء لوائح مرشّحي الدّائرة يتنافسون في ما بينهم؛ ويجمعون ما يرونه مناسبًا لمصلحتهم الانتخابيّة من مرشّحين، ليؤلّف كلّ واحد منهم منهم اللائحة الانتخابيّة التي يسعى إلى فوزها. وكانت مسارات العمليّة الانتخابيّة ترتبط ، تاليًا، بما كانت تحرزه كلّ زعامة من ولاءات شعبيّة في دائرتها.

 

يمكن القول، تاليًا، وبمفهوم عملانيّ مبسّط، إنّ المواطن النّاخب، كان قادرَا، عبر هذا المنهج، على أن يفرض بعضًا من مصلحته، على مساعي الزّعامة، في استيعابها لصوته الانتخابيّ. ولا بدّ، ههنا، من تبيان أنّ المحدوديّة النّسبيّة للنّاخبين في كلّ دائرة، باعتبار محدوديّة رقعتها المكانيّة، جعلت العلاقة بين الزّعامة ومرشّحيها، من جهة، وهؤلاء النّاخبين، من جهة أخرى، أقرب ما تكون إلى علاقة مباشرة؛ وكثيرًا ما كانت تبنى، هذه العلاقة، بين الجهتين، على تواصل دائم يستغرق مرحلة الولاية النّيابيّة بكاملها. ومن الواضح، في هذا السّياق العلائقيّ، بين النّائب والنّاخب، ما يمكن أن يوفره، هذا النّمط من العلاقة، من إمكانيّات للنّاخب في مراقبة النّائب ومراجعته ومعاتبته وحتّى محاسبته؛ وما يتيحه، كذلك، للنّائب من فرص للتّوضيح والشّرح وحتّى الاعتذار والرّجوع عن الخطأ.

 

إنماز رفيق الحريري، من سواه من الزّعماء السّياسيين في البلد، بأنّ طموحه لم يكن محصورًا في أن يكون مجرّد زعيم لدائرة انتخابيّة معيّنة، أو حتّى زعيم لطائفة أو منطقة؛ بقدر ما كان هذا الطّموح يدفعه إلى أن يكون زعيمًا على مستوى الوطن برمّته. تمكّن رفيق الحريري، بما لديه من منهج تفكير عقليّ سياسيّ غير تقليديَ، وبما حصّله من علاقات إقليميّة ودوليّة عديدة وقويّة، وبما كان بين يديه من طاقات تمويليّة كبرى، من وضع إدارة الانتخابات النّيابيّة ضمن دائرة طموحه الشّموليّ. لم يمارس الرّئيس الحريري وجوده في العمليّة الانتخابيّة، ووفاق أيّ قانون يُعتمد لها، بصفته زعيمَا لدائرة انتخابيّة معيّنة؛ بل بكونه زعيمًا للوطن، من أقصاه إلى أقصاه. لم تعد الغاية الأساس والقصوى، من الحملة الانتخابيّة النّيابيّة ونتائجها، استمالة النّاخب، بتحقيق بعض ما يمكن من مصالح خاصّة أو محدودة يبغيها؛ بقدر ما صارت الغاية وضع النّاخب أمام خيار أن يكون ضمن الفئة المساهمة في تنفيذ رؤية رفيق الحريري إلى الوطن، أو ابتعاده عن هذه الفئة. تغيّرت اللّغة الانتخابيّة المعتمدة، وطغت هذه اللّغة الجديدة على تلك المتوارثة منذ عشرينات القرن الماضي؛ فتغيّرت، تاليًا، شروط ممارسة إدارة الانتخابات؛ وبدأ ملامح المنهج الثّاني تطلّ برأسها بسرعة وقوّة في الحياة السّياسيّة اللّبنانيّة. وجد عديد من الزّعماء، الذين لم يلتحقوا بركب الرّئيس رفيق الحريري، أنّهم يواجهون صعوبات جمّة في إدارة حملاتهم الانتخابيّة وتنفيذ معاركها بنجاح؛ فكان لبعضهم أن يختار الانسحاب من ساحة هذه المعارك الانتخابيّة، ويستكين إلى انكفاء عن أجوائها وما تحمله من تحديّات.

 

استمرّ منهج الرّئيس رفيق الحريري، في إدارة العمليّة الانتخابيّة؛ وأضحت لغة الانتخابات النّيابيّة، ترشيحًا وانتخابًا، تدور بشكل عام وأساس، ضمن نطاق اختيار النّاخب للسّير في ركاب رؤية رفيق الحريري؛ وبدأ يتلاشى، في كثير من المجالات، منطق مراعاة النّاخب في ما يراه مصلحة أو منفعة، على المستوى الشّخصي كما الجماعي. لعلّ بالإمكان تجسيد هذا الحال، بالمقولة الأشهر عن اختيار اللّوائح الانتخابيّة، «زي ما هيي»، التي اعتمدها الرّئيس رفيق الحريري في ما يقدِمه من لوائح انتخابيّة للنّاخبين. هكذا، تحوّلت العمليّة من كونها انتخاب، يقوم على الاختيار، إلى تصويت، مهمّته تجهيز تعداد للموافقين على اللّوائح أو المعارضين لها. تراجعت الإمكانيّات التّقليديّة للنّاخب، في قدراته، ولو على بعض «استيعاب» لزعماء اللوائح الانتخابيّة ومرشّحيهم، وأصبح النّاخب مجرّد وجود مُسْتَوْعَبٍ من قِبَلِ زعيم اللائحة الانتخابيّة ومرشّحيها.

 

ظلّ الوضع على هذا الحال، خلال السّنوات الثّلاثين المنصرمة؛ وقد غيّرت أحداثها كثيرًا من معطيات العمل السّياسي ومن بعض مفاهيمه في لبنان، كما بدّلت كثيراً من شروطه ونتائجه. كان اغتيال الرّئيس رفيق الحريري، فاتحة هذه الأحداث؛ وتوالت، بعد ذلك أمور كثيرة، إلى أن وصل الحال إلى استقالة الرّئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة في 2019؛ وما تبع هذا من بلبلة في مواقفه تجاه استمراره في ممارسة الشّأن السّياسيّ الرّاهن، أو انكفائه عنه. وكان أن رافق هذه الحال، مساع متعدّدة ومتنوّعة لتغييب ما لرؤية الرّئيس رفيق الحريري تجاه لبنان، ولمجالات رؤاه في استخدام هذه الرّؤية في مسارات البناء الوطنيّ.

 

يقف البيروتيّون اليوم، بشكل لافت، ومعهم كثير من اللّبنانيين، أمام واقع قائم على تراجع ملحوظ لإمكانيّات استمرار اعتمادهم ما تعوّده بعضهم من المنهج الذي استخدمه الرّئيس رفيق الحريري في الانتخابات النّيابيّة. ينظر بعض المراقبين، عبر هذا الحال من البلبلة، إلى إرهاصات التّحضير الرّاهن، للشّأن الانتخابيّ في بيروت؛ وثمّة من يرى أن لا بدّ من دعوة ملحّة إلى جماهير النّاخبين ومجموعات المرشحين، في الإفادة الحقيقيّة والعمليّة من تجربة بيروت، وسائر لبنان، من معطيات كلّ واحد من هذين المنهجين، في عيشهم اليوميّ وحياتهم الوطنيّة وآفاق الآتي من الزّمن، ووسائل كل منهما ومردوداته الوطنيّة.  من هنا، قد يكون من الواجب الوطنيّ للنّاخبين في بيروت، كما في سائر المحافظات اللّبنانيّة، النّظر الجديّ والواعي المسؤول، في اعتمادهم منهجًا حَرِيًا بتحقيق رؤيتهم إلى ذواتهم الفرديّة والجمعيّة، وتحصيل حقوقهم الدّيموقراطيّة؛ بغرض بناء وطن لا يقوم على تنافس أهوج على مكاسب، وتصارع أرعن على مراكز قوى، واستخفاف مميت بحقوق النّاس؛ ولا عودة فيه، كل ردح من زمن، إلى جولات اقتتال عبثي وموجات تهجير قسريّ وحالات إفلاس وتهجير لا حصر لها.

 

اللّبنانيّون، وأبناء بيروت في طليعتهم، مدعوون اليوم، إلى تلاقٍ وطنيّ فاعل، وبغضّ النّظر عن أيّ قانون انتخابيّ نيابيّ يجري اعتماده، للتّفكُر في منهج انتخابيّ وطنيّ، يستخدم «لغة» تُنجي الوطن من مآسيه وتُبعد عنه أخطاء المنهجين السّابقين وعثرات كل منهما؛ لتؤمّن له عيشًا وطنيًا محترمًا، ولا تدفع به وبأولاده إلى الهجرة عن لبنان.  إنّ ما ينطبق من تحليل تكوينيّ وفاعليّ على بيروت؛ يصحّ، تاليًا، على البناية السّياسيّة والوطنيّة في لبنان، كما لا يبتعد عن عملانيّة الشّأن الانتخابيّ النّيابيّ عند جميع مواطنيه وسائر المرشّحين للنّيابة منهم.

 

الوطن، ههنا، أمام أهميّة وعي ضرورة اتّخاذ خطوة أساس من العمل الشّعبيّ الوطنيّ؛ وهي خطوة لا تحتاج إلى إصدار لقانون أو توقيع لمرسوم أو موافقة رسميّة؛ وما زال الوقت يسمح بمثل هذه المبادرة. إنّها دعوة إلى توجيه الرّأي العام، لتحديد منهج تعامل جمعيّ له مع الانتخابات النّيابيّة. وإذا ما كانت تجربة المنهج التّقليديّ لم تنجح في تحقيق الطّموح الوطنيّ في المصلحة اللّبنانيّة الشّاملة والمشتركة، نتيجة احتكار الزّعامات لنتائج الانتخابات؛ وإذا ما كان المنهج الثّاني أثبت عدم قدرته على البقاء الفعليّ والاستمرار العمليّ، لارتباطه بشخص بحدّ ذاته؛ فقد آن للنّاخبين أن يستفيدوا من محصّلات هاتين التّجربتين. إنّه وقت الفرصة الوطنيّة السّانحة، للتّوصّل إلى منهج للتّعامل مع الانتخابات النّيابيّة؛ ويكون من وسائل تحقيقَا لرؤية وطنيّة مشتركة، تجمع بين النّاخبين، بعيدًا عن سلطة تفرّد الزّعامات وشخصنة القيادات.

 

واجب النّاخبين الوطنيين حقًّا، في بيروت، كما في سائر أنحاء لبنان، وعبر تصرّف واضح، يمكن أن تتّخذه أيّ جهة أهليّة منهم، المبادرة المسؤولة إلى دعوة كلّ ما يمكن أن يجمع هيئاتهم المدنيّة، من مؤسّسات ونقابات وأحزاب وقيادات وشخصيّات، للتبّاحث العلنيّ المنظّم والمسؤول في ما بينهم، لتعيين المنهج الذي يقاربون به الانتخابات النّيابيّة العتيدة؛ و»المواطنة»، فكرة ومفهومًا ومندرجات، تشكّل مفتاحًا وطنيًّا خلاّقًا،؛ يستجيب امطالب الوحدة الوطنيّة والعدالة الاجتماعيّة والإنماء المتوازن.