IMLebanon

«الحفلة»

لا يضيف التفجع وإشهار المرارة حيال لامبالاة المجتمع أمام تقرير «منظمة العفو الدولية»، «المسلخ البشري: عمليات الشنق الجماعية والإبادة الممنهجة في سجن صيدنايا بسورية»، الكثير من القيمة إلى الاعتراض الجذري على ممارسات نظام الأسد والجذور السياسية والاجتماعية التي قام عليها منذ 47 عاماً، بل منذ الانقلاب البعثي الأول في 1963.

لا ينطوي التقرير على إضافات نوعية تميزه عن تقارير مشابهة أصدرتها الأمم المتحدة في العام الماضي ومنظمة «هيومان رايتس ووتش» بعنوان «لو تكلم الموتى» في 2015 المبني على الصور التي هربها المنشق «قيصر». بيد أنه يكتسب معنى جديداً إذا وضع، مع سلسلة التقارير المذكورة، في ضوء أعمال باحثين درسوا ظواهر الإبادة والقتل الجماعي بمستواه «الصناعي» والخلفيات الأيديولوجية والسياسية لهذه الظواهر.

ربما يكون العمل الأهم في هذا السياق هو «أسس التوتاليتارية» لحنّة آرنت وشرحها المفصل لنشوء الأنظمة التي تجعل من قتل مواطنيها، ركناً من أركان عملها اليومي وموجبات وجودها، وما يتبع ذلك من اتسام القتل الجماعي للمعارضين أو للأقليات المغضوب عليها، بالطابع «الصناعي» الآلي، أو الخالي من المشاعر الشخصية والعقلاني البارد على ما توضح في كتابها «آيخمان في القدس».

يطور أومير بارتوف الفكرة في كتابه «القتل بين ظهرانينا» ليقول إن هذا القتل الذي يحمل خصائص العصر الحالي من انعدام في الصبر (في تقرير «العفو الدولية»، تأكيد على أن محكمة الميدان في القابون لا تمنح المعتقل أكثر من دقيقة إلى ثلاث دقائق قبل الحكم عليه بالإعدام) والبراغماتية، والحامل صفات الميكانيكية والديمومة والذي تنظمه وتديره الدولة، ينال شرعيته من قضاة ومثقفين وعلماء وأنه ليس «الجانب المظلم من الحداثة» بل أحد مكوناتها المضمرة. يعيد هذا الكلام إلى الأذهان ترافق الإبادة مع التحديث في سياسات «الاتحاد والترقي» في أواخر أيام تركيا العثمانية ضد الأرمن وهو ما تابعه مصطفى كمال ضد الأكراد. ويذكر أيضاً بما ورد في التقرير من استعانة شكلية بالمفتي و»لجنة الإعدامات» والمحكمة الميدانية، ليس لتبرير المجزرة، بل لاقتناع النظام أنها تجري ضمن سياق عمل الدولة وشرعيتها و «ضروراتها».

يفضي هذا التصور إلى ما يطلق عليه رودولف رومل «قتل الشعب» (ديموسايد) حيث ترى الدولة أن من واجبها إبادة قسم من شعبها، أو تشن حملة قتل جماعية عن طريق معسكرات الاعتقال أو التصفيات أو المجاعات المفتعلة على ما فعل ماو تسي تونغ أثناء حملة «القفزة الكبيرة إلى الأمام» في نهاية خمسينات القرن الماضي.

يتعين التدقيق هنا في ارتباط طبيعة النظام والنمط الاقتصادي – الاجتماعي لكل دولة بالشكل الذي تتخذه إبادة الدول لمعارضيها. فقد كان صناعياً آلياً في ألمانيا النازية، وذات بعد عقابي في صين ماو تسي تونغ والمجاعة الأوكرانية في الثلاثينات أثناء حكم ستالين. وتعطي إشارات في تقرير «العفو الدولية» عن إبعاد السجّانين السنّة عن الغرف التي يجري فيها شنق المعتقلين وإبقاء نظرائهم العلويين، سمة طائفية «أهلية» إذا جاز التعبير، وهي التي تشمل القسم الأعظم من نشاطات الدولة السورية منذ عقود. يتعين أيضاً النظر في التركيبة الطبقية لآلة القتل الأسدية وانحيازات أفرادها وانتماءاتهم لرسم صورة أدق عن الحرب التي يشنها النظام على السوريين الذين يرى في مجرد وجودهم تهديداً لبقائه.

ولعل وصف «الحفلة» لمراسم استقبال السجناء الجدد في صيدنايا، وهو وصف يتكرر في كل أدبيات السجون السورية، شديد الإيحاء بكل سلوك النظام السوري بإطلاق الاسم على نقيضه، من ضرب المعتقلين لدى وصولهم إلى السجن وصولاً إلى «الممانعة والمقاومة» وكل مفردات قاموس دموي يحكم هذه المنطقة.