Site icon IMLebanon

الحزب ينقض لبنان الكبير واستقلاله!  

 

 

في الوقت الذي يحتفل لبنان الشعبي والرسمي في ذكرى استقلاله الخامسة والسبعين، باحتفالات عمّت العديد من المناطق، بشبانه خصوصاً، نجد أن العالم، في الغرب وفي سواه، يسعى إلى «استقلالاته» وإلى محاولات انفصالاته (العنصرية، والاثنية والاجتماعية والسياسية) باتجاهات انعزالية، متقوقعة إما تحت شعار «أميركا أولاً» أو «بريطانيا أولاً»، أو «المجر أولاً»، أو «البرازيل أولاً». هنا المفارقة: فهذا الشعار كما يُطرح، هو فعل انقسام ضد التعدّد، وتموضع ضد الانفتاح. فهو مرفوع في غير محله. فلا يمكن المطالبة بمثل هذه الأمور إلا عندما تكون البلدان «محتلة» أو «الدولة» تحت الوصايات الخارجية، وعندها بالذات يُفهم أنها موجّهة ضدّ كل تدخّل من قِبَل هذه الدولة أو تلك لنقض استقلال تلك الجمهوريات أو الممالك. وهنا بالذات، يبدو شعار «لبنان أولاً» (رفع أصلاً في ثورة الأرز ضدّ الوصاية السورية)، شرعي ومطلوب، لا يحمل لا معاني الكراهية، ولا العنصرية، ولا الانعزالية، بل فيه الاستقلال ليكون للشعب الكلمة الأولى، والعالم، والحضارات والثقافات والعلاقات الاقتصادية. «لبنان سيد نفسه» لم يعنِ إطلاقاً، «قومية»، مرتدة ضد الغير، بل وطنية، تحمل من حرياتها، ما تحمل من احترام الآخر، شرط ألا يكون «احتلالاً» أو «وصايات»، أو هيمنة على قرارات الشعب، أو انتهاكاً لسيادته، أو ضرباً للديموقراطية، أو تشظياً للوحدة الوطنية، أو رفع جدران حديدية في وجه الغير..

 

عام 1920 وُلدت الجمهورية اللبنانية في حدود لبنان الكبير، لكن تحت الانتداب. كأنها «جمهورية» «انتدابية»، تنقض في وجودها معنى الاستقلال. وهنا بالذات، نتذكر غصة أن فئة من اللبنانيين العروبيين، وخصوصاً في بعض المدن، رفضت هذا «اللبنان»، وطالبت بعدم فصله عن سوريا.. كانت الإرادة الجماعية المطلوبة منقوصة. وقد تكون مفارقة أن يرفض حزب أو جهة أو فريق، علماني أو مذهبي، جمهورية بلاده: مفهوم أيديولوجي، يواجه مفهوماً وطنياً. ولكن، وفي غضون نحو عشرين عاماً، تحقق الإجماع، عند كل الفرقاء، والناس بالمطالبة بالاستقلال، وإخراج فرنسا من لبنان. كأنما «ذابت» انتماءات الخارج، وارتهاناته، وآثاره في الطوائف والملل، بوحدة إجماعية نجحت مع رجال دولته بنيل الاستقلال الناجز: لا إرادة برانية محل الإرادة الوطنية: إنه الاستقلال بقلمه، وشعاراته ونشيده، يعمّ نفوس اللبنانيين، وعقولهم وانتماءاتهم. إنه فعل الانتماء الأول الصافي إلى بلاد الأرز، بعد نحو 500 عام، من الاحتلالات والانتدابات المتعاقبة. لحظة لبنانية – عربية، أدخلت هذا البلد إلى عالم الشعوب المستقلة. فهل عرف، عندها، كل اللبنانيين، وخصوصاً الأحزاب، معاني ذلك الحدث؟ غصة أخرى في حلق هذا الإنجاز: أحداث 1958، وإعادة لبنان إلى ذكرى الضمّ، والتدخلات الخارجية، والانقسامات الطائفية الماسّة باستقلاله، بعد قيام ثورة الضباط الأحرار في مصر والوحدة السورية – المصرية انقسم اللبنانيون من جديد على قضية خارجية لم تتحول جروحها إلى ندوب. امتحانها للدولة، وللجمهورية، وللأحزاب، كيف تواجه نداءات الماضي وكلامه، وأثقاله؟ إذ كيف يكون استقلال وجزء من الشعب يربط ولاءاته بالخارج، سواء على مستوى أيديولوجي (القومية العربية)، أو اليسارية، أو الطائفية، التي اختلطت بكيميائياتها، وانفجرت معارك في لبنان، تحت ذريعة رفض التجديد للرئيس كميل شمعون.

 

الهويات

 

عدنا إلى «الهويات» أي إلى ما قبل 1926 و1943. والهويات القاتلة أهلها، وأوطانها.. ودولها، وتاريخها. أي عودة إلى الانعزالية، التي هي من العوامل المفككة للحريات المدنية، ولمفهوم الشعب نفسه. إنهما الخارج والداخل منفصلان، ومتواجهان، ولم يحلا إلا بتسوية سياسية أدت إلى انتخاب العماد فؤاد شهاب رئيساً.

 

الجروح

 

فهل التأمت جروح الأكثر من 500 عام احتلالاً؟ فإذا كانت القومية العربية بمفهومها الأيديولوجي قد صنعت أحداث 1958، فإن القضية الفلسطينية عادت بأشباح الماضي بعد ثلاثين عاماً. أي ما بين 1969 و1975. كأن أحداث 1958 لم تكن سوى «بروفة» صغيرة لما هو أعظم: فأحداث الخمسينات، لم تهدد الدولة ولا الجمهورية، ولا الوحدة مباشرة، أما حروب 1975، فقضت على كل شيء: الاستقلال، الدولة، الجمهورية، ووحدة الشعب الذي تحول كانتونات. و«شعوباً»، متناكرة، ومتنافرة، بولاءات خارجية، دخلت من نوافذها وأبوابها الثورة الفلسطينية التي لعبت (مع خصومها) الدور الأساسي في عملية التهديم، ليكون لبنان ورقة في أيدي المقاومة الفلسطينية تفاوض بها في قضيتها المركزية ضد الاحتلال الصهيوني. وهكذا انفتحت النوافذ والأبواب والفضاءات لتدخلات أخرى: النظام السوري، وإسرائيل وأميركا.. والاتحاد السوفياتي في صراع على هذه الجمهورية الصغيرة: فالخارج يهيمن على الداخل، وعادت كل ميليشيا مذهبية إلى حدودها الكانتونية، بإدارات، وقيادات، و«ميني» دويلات.. حتى استتب الأمر إلى وجود ثلاث وصايات واحتلالات في أجزاء لبنان من «فتح لاند» (اتفاق القاهرة) إلى الوجود السوري.. فإلى الاحتلال الإسرائيلي.. مثلث جهنمي، تواطأت معه الميليشيات، لتزهق الحروب دماء نحو 300 ألف لبناني، وتدمر مدنه، وتهجّر سكانه تهجيراً طائفياً، إنه زمن الدويلات، إلا أن بعض رموزها شارك في تحقيق الاستقلال الثاني.

 

الوصاية السورية

 

لكن وبعد أكثر من 20 عاماً، من المجازر والجنون والهستيريا المذهبية، التي يتحكم بها الخارج بإيقاعاتها، استتب الوضع لسوريا، عندنا فورثت سوريا منظمة التحرير.. وتركزت وصاياتها.

 

لبنان بلا استقلال ولا حرية ولا دولة. كأنه دويلة ملحقة بنظام الأسد (بموافقة إسرائيل وأوروبا.. وبعض العرب).. وكان زمن النظام الديكتاتوري على دولة صغيرة، فانتهكها، وصادرها وتجددت أزمنة الوصايات والانتدابات القديمة (عدنا إلى ما قبل 1926 و1943). إنها العودات القسرية، التي فرضت بقوة طغيانية صادرت مجلس النواب والحكومات، والجيش، (بعد «بنائه»)، والأمن، والقضاء. من لبنان الميليشيات إلى لبنان «النظام الميليشوي الرسمي» من لبنان الدولة التي نعمت باستقلال قصير الأمد إلى دولة الودائع، والنهب، والقتل، والمجازر وتهجير الرموز السياسية والفكرية. كأنما محو لذاكرة هشّة رائعة، إلى عودة مُرَّة إلى اللاحرية، واللاسيادة…

 

المصادفة

 

لكن، كأنما مصادفة غريبة أن يكون أحد أبطال الاستقلال رياض الصلح، وبطل الاستقلال الثاني الشهيد رفيق الحريري من صيدا. الأول قُتل والثاني اغتيل بوحشية فائقة. لكن دمه فجّر ثورة الأرز.. بمظاهرات سلمية مليونية أجبرت النظام البعثي (المذهبي)، على الخروج بجيشه من بلاد الأرز. إنها لحظة استقلالية، متوهجة، ونادرة. تنفس لبنان الصعداء: عال! خرج نظام الغدر والابتزاز والجريمة من لبنان. لكن، وبرغم هذه التجليات الرائعة، وقبل وبعد مؤتمر الطائف، وبعد حل الميليشيات في وقت سابق وتسليمها أسلحتها وانخراطها في الدولة، بات عندنا دستور اكتمل بانتهاء الوصاية السورية.

 

لعبة الودائع

 

لكن، هل انتهت لعبة الودائع والأطماع، ومحاولات أعادة عقارب الساعة إلى الوراء؟ لا! فهناك حزب احتفظ بأسلحته، حزب مذهبي اسمه «حزب الله» صُنع في إيران، وعُين له دور «مقاومة» العدو. بهذه الذريعة ورث الحزب «المقاومة الوطنية» و«الفلسطينية» على الحدود الجنوبية مع إسرائيل. قاوم، وحرّر، وخرج جيش الاحتلال من الجنوب والبقاع الغربي.. رائع! قلنا: إنه «الاستقلال» الثالث. لكن، حصل العكس: استبدل الحزب الاحتلال الإسرائيلي باحتلالين سوري وإيراني. ثم ارتد على لبنان ليكون كله مكافأة على مقاومته.. فصل جديد، طويل، نعيشه منذ عام 2000. وما تحقق من ثورة الاستقلال الثاني، نقض في «الاستقلال الثالث المفترض»، يرث النظام الأسدي، ويرث إسرائيل: كأنما، على امتداد هذه السنوات، قد عُدنا إلى ما قبل 1943 و1926. زمن العودات الأبدية. وكأنما حاول هذا الحزب الميليشيوي تحويل لبنان كله إلى كانتون تابع لولاية الفقيه. فالمصيبة أعظم. ثورة الأرز تفككت، وبقي الحزب متراصاً، بوحدة عضوية مع ملالي إيران. فأين الاستقلال؟ وأين وحدة الدولة؟ وأين الجمهورية؟ كلها منقوصة.. جلجلة جديدة، بفصول مخيفة، لإرهاب اللبنانيين: من إرهاب دولتين سورية وإسرائيلية إلى إرهاب دولة فارسية، مقنّعة راحت تُمعن غطرسة، واستئثاراً، في سياق انتخابات رئاسة الجمهورية، وتأليف الحكومات، وانخراط في حروب الخارج واستجرار إسرائيل إلى تدمير لبنان: الحزب الخراب. مسلسل حربي، بوليسي، مذهبي.. كانت آخر فصوله، قبل أشهر: تأليف الحكومة اللبنانية بتكليف الرئيس سعد الحريري.. بعد الانتخابات الأخيرة.

 

وها هو، كما انخرط في حرب على الشعوب في سوريا والعراق واليمن، في يوتوبيا «الهلال» الامبراطوري – الفارسي، ها هو ينخرط، وعلى حساب لبنان، ومن داخله، في الحرب القائمة بين إيران والعالم وفي مقدمتها أميركا. فالعقوبات الترامبية تنهال على إيران، والعقوبات الاقتصادية تشلّ البلد، فلماذا لا يعاقب الحزب لبنان أيضاً ليشكل معادلة نسبية مع الوضع الإيراني: الذريعة هي المطالبة (المتأخرة وغير المتوقعة) بإدخال وزير سُنِّي من 8 آذار (من أصل ستة نجحوا في الانتخابات على لوائح الحزب).. ويبدو أن القضية المفتعلة، وجدت لكي تبقى ومرتبطة بأزمات إيران. فالحزب إيراني الهوى والهوية، فكيف لا يحترم «سيادتها» ومصالحها على لبنان الذي يريده جزءاً منها؟

 

وكما صادف عيدا الاستقلال الماضيين بلا رئيس جمهورية (سنة ونصف من الفراغ)، فها هو عيد الاستقلال اليوم، بلا حكومة! دائماً يستخدم الحزب سلاح الفراغ السياسي لتدمير البلد! فهل تعتبر هذه الممارسات عودة إلى ما قبل الطائف و1943 و1926؟ أي نقض الاستقلال وتقزيم لبنان الكبير؟ أكثر بل إلغاء لبنان كله باستقلاله، وسيادته، وكيانه وجمهوريته.. وشعبه. وما نبرة السيد حسن نصرالله الأخيرة سوى تعبير عن هذه الحقيقة: أنا الموجود. أنا الجمهورية. أنا الدستور. أنا الدويلة الكبرى القادرة على اجتراح المعجزات. ها هي نماذج من تلك الجلجلات المصيرية التي تستمر منذ أكثر من نصف قرن. والحزب «الخارق» هو «بطل المراحل والأزمان والأبد»!

 

لكن، اللبنانيين باتوا يعرفون أن هذا الحزب اليوم، لم يعد كما كان قبل سنوات: فلا إيرانه في وضع مريح (معزولة)، ولا هو في وضع مريح (معزول) من أكثرية اللبنانيين..

 

صحيح أن غصّة «الاستقلال» أمرّ هذه المرة، لكن ما هو صحيح أيضاً، أن الاحتفالات الشعبية، التي عمّت لبنان بهذا العيد الخامس والسبعين، تحمل مؤشرات جلية، أن الشعب الذي انتفض على الوصاية السورية.. متمسك باستقلاله وأن «حزب الله»، يبدو أقلية الأقلية، اليوم في نمطه السياسي: فهو محاصر حصاراً سياسياً لا سابق له.. وهو أسير كانتونه وعزلته.. وفي الزاوية.. وفي أسوأ مراحله السياسية: فهل ينتحر.. ويستنحر لبنان معه؟ وهل يخرج من حصاره بمغامرة هنا وهناك (بعد تهديدات أمينه العام الأخيرة)؟ كل شيء وارد لكن ما هو أساس: أن الرئيس المكلف سعد الحريري، الذي أعطى وضحّى لتتم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.. صامد هذه المرة في وجه هذا الحزب ومَن وراءه ومَن قدّامه. صامد في محافظته على الدستور والصلاحيات وكذلك إرادة الشعب اللبناني..

 

فإذا كان حزب سليماني يمارس لعبة النَفَس الطويل لتدمير البلد. وتغيير وجهه، وكيانه، ودستوره، فالرئيس سعد الحريري والقيادات الأخرى.. أكثر صموداً.. وإصرراً على التمسّك بالديموقراطية، والأعراف، والنظام البرلماني.. أما أهواء آخر ميليشيات هذا الزمن، فيمكنه انتظار انتهاء صلاحيته.. محفورة على لوحة نهر الكلب، أسوة بكل الطغاة والبرابرة الذين مرّوا وتحولوا لعنة من لعنات التاريخ..

 

بول شاوول