كانت كل التقديرات المنطقية تقول انه لا يمكن ان تمر عملية اغتيال فؤاد شكر بلا رد “حزب الله”، وان اي رد لا يمكن ان يمر من دون ان يكون عملية خاطفة وقصيرة المدى تقاس بالدقائق. تحاذر إصابة المدنيين والبنى التحتية بطريقة حصرتها بهدف عسكري شرط أن لا تقود الى حرب واسعة لا يريدها أحد. فتنافس الطرفان لتكوين توازن دقيق خلط بين عمليتين “استباقية و”هجومية” في آن. كيف تم الالتزام بهذه المعادلة؟ وكيف نفذت؟
بمعزل عن التوقيت الذي لم يكن في متناول ادق العارفين في لبنان والمنطقة من غير المعنيين بمحور المقاومة الى حد ما، فقد تعددت الروايات اليومية عن الموعد المنتظر للرد “المزلزل” الى ان صدق البعض منها التي أطلقت من تل ابيب وواشنطن قبل اي عاصمة أخرى بحسب البيانات والتحذيرات التي صدرت مساء السبت الماضي قبل ساعات قليلة على ساعة الصفر التي تبين أنها حددت عند الخامسة والربع من فجر اليوم التالي صباح الأحد. وهو ما لم ينفه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي نفى ان تكون “ضربة استباقية” كما سمتها اسرائيل، ولكنه ردها إلى أنها كانت طبيعية في توقيتها معترفا بقدرتها ومعها الأميركيين على رصد “تحركات الشباب” التي سبقت تلك اللحظة.
لا تستبعد المراجع العسكرية قبل الديبلوماسية والسياسية ان يسيل حبر كثير عند الحديث عن مجريات الساعات الثلاثة التي استغرقتها عملية الرد وما سبقها من عملية “استباقية” وما تلاهما. وهي فترة تحتسب بدقائقها الـ 180 منذ اللحظة التي باشرت فيها اسرائيل ضرباتها الجوية الاستباقية عند الخامسة إلا دقائق معدودة، والتي سبقت ساعة الصفر للعملية الثأرية بربع ساعة تقريبا. وهي العملية التي جندت لها اسرائيل سلاحها الجوي بمشاركة 100 طائرة حربية نفاثة ومسيرة في اتجاه عشرات الاهداف المخزنة في بنكها الخاص جنوب نهر اليطاني وشمال مجراه والتي تركزت على اودية القرى الجنوبية حيث تنتشرالمواقع المخصصة لنصب صواريخ المقاومة ومسيراتها من دون ان تقع اي اصابات بعدما اعترفت المقاومة باخلائها قبل العملية بساعات محدودة تحوطا للرد المنتظر.
والى هذه الملاحظات، التي لا يمكن لأحد تجاهلها لمجرد أنها سجلت في لائحة العمليات العسكرية بلحظاتها الدقيقة، فان ما انتهت إليه العملية التي شكلت الرد الأول على اغتيال القائد العسكري فؤاد شكر تستحق كثيرا من القراءات التي قد لا تنتهي قريبا. ذلك ان بعضها يحتاج الى انتظار ما انتهت اليه العمليات العسكرية المكثفة وظهور النتائج التي تحققت منها. فبيانات “حزب الله” وما كشفه السيد نصرالله عن الأهداف التي قصدتها المقاومة لم تصل الى احصاء ما انتهت اليه بفعل القدرة الاسرائيلية على حجبها وضبطها ومنع تسرب اي معلومة دقيقة منها.
فبعض ما اشير اليه من أهداف وخصوصا بما يتصل بالقاعدة العسكرية المستهدفة في “غليلوت” حيث يوجد مقرّ الموساد، ومقر الوحدة 8200 على خلفية أنها هي من أشرفت على عملية اغتيال شكر في 30 تموز الماضي. ذلك أن الجيش الإسرائيليّ نفى اصابتها بنحو محسوم لا يخضع لاي تشكيك، بعدما تمكن حسب زعمه من تدمير المنصات التي كانت تستهدفها ومعها مراكز اخرى في تل ابيب الكبرى جراء “العملية الاستباقية” التي نفذها سلاح الطيران وخصوصا ان الحزب لم يكن قد اعلن بعد عن الهدف الحقيقي لـ “عملية الاربعين”.
وفي انتظار تلك اللحظة، التي تتكشف فيها نتائج رد حزب الله وما حصده ليكتفي به او العكس، نصحت مراجع ديبلوماسية بالتوقف عند ما أفرزته العملية كاملة من وقائع جديدة قد تكون لها انعكاساتها على مستقبل المواجهة التي ما زالت مفتوحة بين الطرفين على شتى الاحتمالات. فما جرى أول من أمس الأحد لا يتعدى ان جولة من جولات الحرب قد طويت. وان المسلسل ما زال مستمرا طالما ان المساعي الدولية لم تنته بعد الى معالجة السبب الذي قاد الى حرب “الالهاء والاسناد” وهو مرتبط بوقف النار في قطاع غزة لتنعكس نتائجه الايجابية على بقية الجبهات من لبنان الى اليمن والعراق وربما طهران مرة أخرى.
وفي تقييمها للاعلان المشترك للجانبين الاسرائيلي وحزب الله بفارق دقائق معدودة بأن العملية الاستباقية انتهت ومعها مشروع الرد على اغتيال شكر، قالت المراجع عينها، ان ما جرى شكل “نهاية حتمية” للعملية بوجهيها ولا سيما الرد الذي طال انتظاره على “عملية حارة حريك” بعد عزلها تماما عن “عملية طهران” التي انتهت باغتيال اسماعيل هنية. واعتبرت انه شكل نجاحا للاستراتيجية التي قالت بضرورة رفع اي تهديد يمكن ان يقود الى حرب شاملة ربطا باغتيال هنية وشكر. فاعترف طرفا النزاع، بصدق يشهد عليه الجميع، بانهما لا يسعيان إلى تلك المرحلة الخطيرة.
وما رصدته هذه المراجع يتوقف على المعادلة “المطمئنة” التي نشأت ومفادها، انه وفيما رفعت حالات التأهب في اسرائيل وتل ابيب ومطارها ومحيطها الجغرافي في وسط البلاد باستثناء المنطقة الحدودية الشمالية، ذهب السيد نصرالله الى ابعد منها، فدعا اللبنانيين من بيئة المقاومة والمؤيدين لها، الذين تركوا منازلهم في الضاحية الجنوبية ومناطق مختلفة كانت على لائحة رد الفعل الاسرائيلي المحتمل على اي ضربة يوجهها الحزب الى العودة الى منازلهم وممارسة حياتهم اليومية بطريقة مضمونة ومطمئنة. وهي دعوة مهدت لها التسريبات قبل خطابه بساعات قليلة عودة الى الحياة الطبيعية، وتطورت ليلا الى احتفالات تجلت بالمسيرات التي شارك فيها آلاف من ابناء المنطقة العائدين اليها بدراجاتهم النارية ومكبرات الصوت.
على هذه الخلفيات، كشفت تقارير ديبلوماسية عاجلة وردت الى المسؤولين اللبنانيين في الساعات التي تلت المواجهة ارتياحا أميركيا وأوروبيا لعبور هذه المحطة التي طال انتظارها اربعة اسابيع تقريبا بأقل الخسائر الممكنة. ومرد ذلك ان العمليات العسكرية على كثافتها لم تتسبب بأي ضحايا لا في لبنان ولا في اسرائيل ولم تمس البنى التحتية لدى الطرفين وبقيت محصورة بالأهداف العسكرية. وهي عملية ادت تلقائيا الى استبعاد السيناريوهات السلبية المتداولة في الايام الاخيرة التي رسمت لـ “الحرب الشاملة” وهو ما ترجمه احتفال الطرفين بنجاح استراتيجيتهما، العملية الاستباقية كما في الرد على حدث سابق والرد على الرد. فطويت احدى الازمات التي ولدت غداة موجة الإغتيالات لمجرد العودة الى ما سمي “قواعد الاشتباك” السابقة قبل اليوم الاخير من تموز الماضي وهو أمر واقع جديد لم يثنِ اسرائيل عن القيام بمحاولة اغتيال فاشلة ظهر امس نجا منها أحد مسؤولي حماس في صيدا.
وعليه، من المفترض عند مقاربة اشكال الرد المنتظرة على موجة الاغتيالات السابقة ان تتجه الانظار الى رصد الرد “الحتمي المؤجل” من الجانب الايراني مباشرة كما بالنسبة الى الرد اليمني على “عملية الحديدة” وهي مسألة مختلفة بعد الفصل الذي مارسه “محور الممانعة” بين مجمل هذه العمليات وترك الحرية لأطرافه ليتولوا الرد كما يرتأون في توقيته وشكله ومضمونه على أمل في أن لا تكون لها أي ترددات على الساحة اللبنانية متى وقعت.