من الصعب أن يتقدم أحد لإزجاء النصح للفلسطينيين، وخصوصاً أمام هذه التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني وشبابه على طول عقود ممتدة، أمام صلف الإسرائيلي الذي تندى لأفعاله المشينة الجبين، إلا أن أكثر من ذلك صعوبة ألا يشار إلى النواقص من أجل تصويبها، حيث من المعيب ألا يقال للقيادات الفلسطينية كلمة من خارج التصور التقليدي للاقتراب من شؤون القضية التي استهلكت عمراً هو قرن تقريباً من السنين، واستنزفت الكثير من الطاقة فلسطينياً وعربياً وما زالت تفعل. فهناك من النخب المحيطة بمتخذ القرار الفلسطيني من أدمن قراءة التعاويذ أكثر مما يقرأ من التاريخ ويستفيد من عبره، ليس التاريخ العالمي ومسيرة صراع الشعوب مع محتليها فقط، ولكن حتى التاريخ الفلسطيني.
كثيرون ممن قرأوا التاريخ ذاك يعرفون أن في كثير من منحياته قرأت القيادات الفلسطينية الأحداث بشكل عاطفي وشعوبي، واتخذت ردات فعل انفعالية، أكثر منها مقاربة بشكل علمي. قبل أن أضع ما أتصوره (الطريق الآخر لفلسطين) أعرض على القارئ أحداثاً ليست بعيدة.
كلنا يعرف «وعد بلفور» الذي صدر قبل مائة عام تقريبا، ولكن بعد ثورة الشعب الفلسطيني (1936 – 1939) صدر في بريطانيا، البلد الذي أصدر ذلك الوعد شيء يسمى «الورقة البيضاء»، وهي عادة تحمل أفكاراً وتوجهات نحو قضية ما، ثم تتحول إلى قوانين بعد مناقشتها (بشكل عام). تلك الورقة البيضاء التي صدرت عام 1939 وتسمى أيضاً «ورقة ماكدونالد»، وكان رئيس الوزراء وقتها نيفيل تشامبرلين، صدرت استجابة لأحداث الثورة العربية الفلسطينية، وكانت نذر الحرب العالمية الثانية تتجمع في الأفق الأوروبي، وحفاظاً على السلم المتوخى من البريطانيين في مستعمرتهم وقتها (فلسطين) وافق مجلس العموم على تلك الورقة في 23 مايو (أيار) 1939، التي كانت تنص على أن وعد بلفور لم يقرر إقامة دولة «يهودية» في فلسطين، وأن الدولة التي تعد بريطانيا بإقامتها هي دولة عربية! التاريخ ذاك موجود بتفاصيله في كثير من المؤلفات، وردود الفعل العربية أيضاً موجودة، ولم تكن تخرج عن «النص» الذي تكرر كثيراً.
ما قصدت من الرواية السابقة الوصول إلى ردة فعل الصهيونية العالمية، التي لم تكن بالطبع تقبل مثل تلك الأفكار، بل ثارت ضدها على مر الأشهر والسنين القليلة التالية، فكتب ديفيد بن غوريون لاحقاً رسالة محتجة إلى السلطات البريطانية ظهرت فيها العبارة المشهورة «سوف نحارب الورقة البيضاء، وكأن الحرب العالمية غير موجودة، وسوف نحارب معكم الحرب وكأن الورقة البيضاء غير موجودة»، العبارة هنا حاملة للدلالات، أقلها أن هناك ملفين لا يجب الخلط بينهما، ملف الورقة البيضاء وملف الحرب (التي كان لها أولوية قصوى لدى الإدارة البريطانية وحلفائها) مثل هذا الدرس وغيره لم تستفد منه القيادات الفلسطينية ونخبها، بل في معظم الأحوال، مع الأسف، استجابت تلك النخب للرغبات الشعوبية والشعارات الصارخة، ولم تقم تلك النخبة بوضع (بيئة فكرية ودبلوماسية وعملياتية) مدروسة، تنتج تكافؤاً استراتيجياً دبلوماسياً، يقرأ الأحداث بدقة ويستجيب لها من خلال (خريطة طريق).
أفسر قولي السابق بأن القيادة الفلسطينية، وكأنها فوجئت بقرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس (تقول التصريحات الأميركية إنها القدس الغربية)! فقررت على الفور إلغاء مقابلة نائب الرئيس الأميركي، وسارت الأمور كما نعرفها اليوم إلى قرار الجمعية العامة، وربما كان الآخر (الإسرائيلي والأميركي) قد توقع ذلك المسار، وعرف نتائجه مسبقاً، جرياً على ردود الفعل العربية التي لم تتغير قواعد اللعبة عندها منذ زمن طويل.
كان على النخب الفلسطينية التفكير في تغيير قواعد اللعبة في ظل الضعف الاستراتيجي العام في المنطقة، وأخذ دروس من الماضي الطويل في طريق الآلام، كان من الأفضل التفكير في منهجية تسير على طريق آخر، يُستقبل نائب الرئيس ويقال له أنتم قررتم نقل سفارتكم إلى القدس الغربية، رغم رفضنا، فليكن… ولكن عليكم أن تعترفوا بأن القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، وتخاض المعركة الدبلوماسية بهذه الإيجابية ولذلك الهدف، أي ليس طلباً من دولة عظمى التراجع عن قرارات اتخذتها! في ظل ذلك التوازن المختل الجيوسياسي في الجوار، فهناك معاهدات وتفاهمات، حتى الوجود الإيراني (الذي يشكل للبعض ما يمثل رادعا)! على الأقل للإخوة في حماس، هناك تفاهمات إسرائيلية/ روسية، أن يبقى أي تجمع لميليشيات تلك الدولة خلف خط (درعا/ دمشق) بعيداً عن الحدود مع إسرائيل.
فكرة الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين، هي عمل سياسي إيجابي، وتفكير خارج الصندوق، ويمكن أن يستفيد من الزخم الشعبي والدولي الكثيف، وينقل إلى مجلس الأمن، وقد يحدث، وهذا افتراض، أن يوافق مجلس الأمن في ظل الأجواء المصاحبة ويعترف بشكل إيجابي بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين، وحتى لو قررت الولايات المتحدة (تحت هذا الافتراض) أن تستخدم الفيتو، فإن قراراً من هذا النوع سوف يمر بسهولة وبأغلبية أكبر مما حدث أخيراً، لأنه لا حرج على أحد من مطالبة إيجابية، على عكس الحرج في المطالبة السلبية، بأن تقوم دولة كبرى (بصرف النظر عمن يسيّر سياستها اليوم) بالتراجع عن قرار تم اتخاذه، ذلك ما يمكن أن يسمى بـ«دبلوماسية الممكن»، التي افتقدناها طوال تلك المسيرة المؤلمة للشعب الفلسطيني وشعوب الجوار التي قدمت أيضاً ضحايا واستنزفت موارد ضخمة، بل بعثرة أوطان. مثل هذه الاستراتيجية لا تتصادم مع الولايات المتحدة، فليس في الأفق في السنوات المنظورة من قوة عالمية تستطيع أن تكون «وسيطاً» في هذه المعضلة إلا الولايات المتحدة. فقدان ما يمكن أن يسمى «الخيال السياسي» هو الذي أورثنا كل تلك المسيرة التقهقرية في طريق «قضية العرب الكبرى» من قرار التقسيم رقم 181 الذي صدر في نوفمبر (تشرين الثاني) 1947، وقد صدر وقتها من الجمعية العامة (33 دولة مع و13 ضد وامتناع 10 دول) إلى كل المنعطفات التي مرت بها القضية، الوعي في الفكر السياسي السائد هو الوعي بردود الفعل، المستجيب لصيحات الجماهير التي قد لا تكون في صورة الحقائق الموضوعية. القصور في المخيلة السياسية لا ينتج الأخطاء فقط، بل يجلب الكوارث. فتحديات الواقع الفلسطيني المعقدة واجب أن تؤخذ بجدية وصرامة وتفكير معمق، فقد شبعت القضية من المزايدات التي لم تؤدِ إلا إلى الخسران.
آخر الكلام:
ما زالت المطالبات بوحدة الصف الفلسطيني تذهب أدراج الرياح، وتصل إلى آذان صماء! وهي فرقة ليس للآخرين دخل فيها!! كما أنها فرقة تضعف الموقف برمته!!