Site icon IMLebanon

إتجاهان لنداء البطريرك

على أثر النداء او النداءات التي وجّهها البطريرك بشارة الراعي، داعياً فيها إلى معالجة القضايا الخلافية الجوهرية التي تشكّل معالجتها مدخلاً لحلّ الأزمة اللبنانية، فإنّ السؤال الأساس الذي تصدّر الواجهة السياسية، تمحور حول ماهية الخطوة التالية التي سيلجأ إليها البطريرك، فهل يكون «فشة خلق» تنتهي عند هذه الحدود، أم سيقود المواجهة تحقيقاً للعناوين التي أثارها؟

الإنطباع السائد والغالب، انّ الكلام الكبير الذي قاله البطريرك، ولامس فيه جوهر الأزمة اللبنانية، سيقف عند حدود التعبير عن الموقف لجملة اعتبارات وأسباب، أهمها:

 

أولاً، اختلاف الظرف السياسي الحالي عن الظرف الذي رعى فيه البطريرك مار نصرالله بطرس صفير لقاء «قرنة شهوان»، حيث انّ الأحزاب والشخصيات التي انضوت في هذا اللقاء كانت بحاجة إلى مساحة مظللة كنسياً كغطاء معنوي، وبما يفسح أمامها بفك، ولو جزئياً، الحظر السياسي المفروض عليها، وبالتالي شكّل هذا اللقاء حاجة ذاتية لها بقدر ما هو حاجة وطنية، فيما الحظر السياسي الذي كان قائماً بالأمس غير موجود اليوم، ما يعني انتفاء تلقائياً الحاجة الذاتية، الأمر الذي لا يفترض التقليل من أهميته.

 

ثانياً، حظر العمل السياسي الذي وضعه النظام السوري على القوى السيادية أدّى إلى توحيدها تحت عنوان «المصيبة بتجمع»، فكان صوت اي عضو في لقاء القرنة يوازي الصوت الآخر، حتى لو كان رئيساً سابقاً للجمهورية أو ممثلاً لحزب معيّن، فيما الوضع مختلف اليوم، مع عودة الحياة السياسية وإتمام انتخابات نيابية وفق قانون تمثيلي حدّد الأحجام والأوزان.

 

ثالثاً، الترحيب الذي حظي به كلام البطريرك وطنياً، يقطع الطريق أمام اي تفكير بالعودة إلى مربّع اللقاء المسيحي ولو بخطاب عابر للطوائف، إذ لا مصلحة بالعودة خطوات إلى الوراء، ومن خلال لقاء لا وزن سياسياً له اليوم، فيما اي محاولة يجب ان تنطلق من 14 آذار صعوداً لا نزولاً، اي بالعودة إلى ما قبل هذا التحالف الذي يجب الانطلاق منه والعمل على تطويره وتحديثه.

 

رابعاً، العائق الذي يحول دون قيام جبهة سياسية يتجاوز الخلافات والتباينات القائمة بين القوى التي يُفترض ان تتشكّل منها هذه الجبهة، حيث انّ العائق الأساس سياسي بامتياز، مع رفض بعض القوى إحراج الرئيس نبيه بري واستفزاز «حزب الله»، الذي يمكن ان يلجأ إلى استخدام العنف مع قيام خصم سياسي واضح ومباشر له، فيما خصمه اليوم هو واشنطن، التي لا يستطيع مقارعتها، والوضع المالي الذي لا يفقه كيفية معالجته، وبالتالي لا يفترض، بالنسبة إلى هذه القوى، منح الحزب ذريعة لتعبئة بيئته والساحة اللبنانية وإحياء الاصطفاف القديم، كما لا يجب منحه الفرصة لتوسُّل العنف.

 

فلكل هذه الاعتبارات والأسباب وغيرها، هناك من يعتبر انّ العوائق السياسية القائمة تحول دون ترجمة خريطة الطريق التي وضعها البطريرك وأبرزها، انّ الاندفاعة الأميركية القوية في مواجهة إيران و«حزب الله» تستدعي التزام النأي بالنفس لا الانخراط في المواجهة، التي لن تقدِّم ولن تؤخّر في الإصرار الأميركي ولا في النتيجة المتوقعة، فيما الحكمة القديمة تقول «عند تغيير الدول إحفظ رأسك»، والحكمة الجديدة تقول «الانتظار على حافة النهر» هو أفضل الخيارات، طالما انّ الطابع الأساس للمواجهة دولي – إقليمي، ولا مصلحة بنقل المواجهة إلى الداخل، مع طرف على استعداد لأن يقوم بأي شيء مع خسارته كل شيء.

 

وفي ظلّ هذا النمط من التفكير، يصعب توقُّع الذهاب إلى الترجمات العملية لكلام الراعي، من خلال تشكيل جبهة سياسية تتخذ من النداء الذي أطلقه وثيقة تأسيسية لها، ما يعني استبعاد الخطوة التالية وانتهاء الأمور عند حد الكلام المعلن وما رافقه من ترحيب سياسي، ينتهي مفعوله مع طغيان حدث سياسي أو مالي آخر، وما أكثرها هذه الأيام مع التدهور الاقتصادي المتواصل والغضب الشعبي المتزايد.

 

وما تقدّم هو صحيح ودقيق، باستثناء وجود عامل واحد وأساسي يمكن ان يُبقي كلام البطريرك في صدارة المشهد السياسي، وان يقدِّم الإجابة الشافية عن الخطوة التالية للنداء، وهذا العامل هو البطريرك نفسه، الذي بإمكانه إحراج جميع القوى السياسية، من خلال إصراره على السقف الوطني الذي وضعه، وان يرفع من سقفه وحدّة لهجته إزاء كل من لا يتبنّى هذا السقف، وان يصرّ ويدفع باتجاه ترجمته على أرض الواقع.

 

فالمبادرة اليوم في يد البطريرك، الذي يتمتع أساساً بهامش حركة أكبر من القوى السياسية نسبة لموقعه الديني، والردّ على إصراره على موقفه عبر توسُّل العنف، تبقى احتمالاته أقل، فيما لو رفعت هذه العناوين من جانب القوى السياسية، ولكن الأساس يبقى في إدارته لهذه المواجهة التي تتطلب منه التحرُّك ضمن سيبة ثلاثية:

 

الأمر الأول، عدم التراجع عن السقف الذي وضعه والتذكير بالعناوين التي رفعها في كل مناسبة وعظة، فلا يكون النداء استثناءً، بل يتحول إلى قاعدة، فينقل النقاش من مالي- اقتصادي- معيشي، إلى وطني- سياسي- سيادي، ومن منطلق أن لا حل للأزمة المالية من دون حلّ سياسي جذري للأزمة اللبنانية وليس بالترقيع.

 

الأمر الثاني، تجنُّب تشكيل أطر هامشية تؤدي إلى إجهاض النداء الذي يتطلب رافعات وطنية وسياسية وتمثيلية، قادرة على حمل عناوينه، من أجل ترجمتها على أرض الواقع، ما يعني تلافي تشكيل أطر غبّ الطلب في حال تعذُّر تشكيل جبهة وطنية.

 

الأمر الثالث، الترجمة العملية لا يمكن تحقيقها من دون إطلاق دينامية سياسية، والدينامية تتطلّب المواظبة على الموقف السياسي والتدرُّج بخطوات عملية من قبيل فتح أبواب بكركي والديمان أمام السياسيين والديبلوماسيين والرأي العام، بغية تدعيم النداء ديبلوماسياً وسياسياً وشعبياً وإطلاق حركة شعبية في هذا الاتجاه، ودعوة رئيس الجمهورية إلى الدعوة إلى حوار وطني يبدأ من الحياد وإلّا مقاطعته…

 

فالمبادرة الإنقاذية هي في يد البطريرك الماروني، وإنجاحها يتوقف عليه عن طريق الثلاثية أعلاه وثلاثية الإصرار على الموقف والتصعيد السياسي وإحراج القوى السيادية، وخلاف ذلك سيذهب موقفه كما ذهبت مواقف أخرى أدراج الرياح، وتتحول إلى مجرد لحظة عابرة والتفاف موسمي وردّ فعل غاضب على وضع مأسوي، فيما أمام البطريرك الراعي فرصة، ليس فقط ليدخل التاريخ كما دخل سلفه البطريرك صفير من الباب اللبناني العريض، إنما لإنقاذ لبنان، لأنّ الانزلاق المتواصل والذي لا قعر له وعلى كافة الصعد مع التحلّل غير المسبوق في كل المجالات والقطاعات، يمكن ان يقود إلى نهاية لبنان وإنهاء آخر بقعة مسيحية سيادية عنفوانية في هذا الشرق.

 

ومن هنا ضرورة المبادرة سريعاً لإعادة ترتيب وضع البلد في الجوهر والأساس، لأنّ الترقيع لم يعد يجدي نفعاً.