ليس بشارة الراعي أوّل بطريرك مسيحي يزور السعوديّة، آتياً مِن لبنان، إنّما هو أوّل بطريرك ماروني يفعلها. زارها قبله بطريرك الروم الأرثوذكس الياس معوّض عام 1975. لم يكن في استقبال الراعي على أرض المطار في الرياض، قبل أيّام، أيّ أمير مِن آل سعود. استقبله ثامر السبهان، وهذا الأخير، إلى جانب كونه مُغرّداً، ليس سوى «وزير دولة لشؤون الخليج»!
أمّا معوّض، وقبل 42 عاماً، فقد استقبله في مطار جدّة الأمير فوّاز بن عبد العزيز آل سعود. كان هذا الأخير أمير مكّة. ما الذي يعنيه هذا؟ لا شيء بالضرورة. في قاعة الشرف، سأل الأمير السعودي معوّض: «كيف حال فخامة الرئيس؟»، فأجابه: «إنّني أنقل لكم تحيّات سيادة الرئيس حافظ الأسد، كما أنقل لكم تحيّات فخامة الرئيس سليمان فرنجيّة» (ينقل ذلك حرفيّاً رياض الريّس في تغطيته الزيارة لجريدة «النهار»). لم يُعلَم إن كان الملك سلمان أو وليّ عهده، أو أيّ أحد، قد سأل الراعي عن حال فخامة الرئيس. كان معوّض يُعرف بـ«بطريرك العروبة». قال للملك خالد: «نحن كمسيحيين عرب نعتبر أن خسارة القدس هي خسارة لكلّ القضيّة العربيّة. لقد تعاضد العرب، مسيحيّوهم ومسلموهم، في السراء والضراء وناضلوا يداً واحدة في سبيل الكرامة العربيّة». أمّا الراعي فقد أشاد بـ«لبنان الحيادي» و«النأي بالنفس». هناك مَن يرى أنّ وفاة معوّض، بعد سنوات، لم تكن «طبيعيّة». قيل إنّه قُتِل بالسُمّ، ولهذا يصفه البعض بـ«الشهيد».
مِن الرياض قال الراعي: «ما كنت أحلم يوماً بإمكان زيارة المملكة، ولكنّ الدعوة التي تلقيّتها عام 2013 اتفقنا نتيجتها على زيارة المملكة، إلا أنني عدت واعتذرت عن عدم تلبيتها على أثر استقالة البابا بينيديكتوس السادس عشر ودعوتي إلى المشاركة في انتخاب بابا جديد». لكن لآل سعود، وبالإذن مِن نيافته، رأياً آخر في هذه المسألة. مَن اعتذر آنذاك عن استقباله، وقبل ذلك أكثر مِن مرّة، هو وزير الخارجيّة السعوديّ السابق سعود الفيصل، إذ أنّه كان «مشغولاً». ففي برقيّة مُسرّبة، مصنّفة سريّة، صادرة عنه إلى سفارة بلاده في بيروت، نجده يقول: «هذه لسعادة السفير. إشارة إلى برقيّتكم رقم 205 بشأن رغبة البطريرك الماروني / مار بشارة الراعي القيام بزيارة إلى المملكة. نخبركم بصدور التوجيه السامي بالاعتذار مِنه لانشغال المسؤولين في المملكة في الوقت الحاضر، وأن يتم التواصل معه في لبنان مِن قبلكم». الراعي هنا، بحسب الفيصل، هو مَن «يرغب» بالزيارة، هو يُبادر إلى طلب ذلك، ولا يوجد ما يُشير إلى «دعوة». أيّاً يكن، سنصدّق الراعي، إذ أنّ آل سعود غالباً ما يُشوّهون الحقائق، وما إلى ذلك، فضلاً عن أنّ الفيصل أصبح في «دار الحقّ». ربّما كان الأخير يحمل في قلبه على الراعي بسبب تصريحات أطلقها، لم ترق لهم، بخصوص الأزمة في سوريا. يكتب الفيصل، في وثيقة مُسرّبة أخرى، الآتي: «خادم الحرمين الشريفين رئيس مجلس الوزراء، يحفظه الله. أتشرّف بالعرض على النظر الكريم ما ورد مِن السفارة في بيروت عن الانتقادات التي وجهّت لتصريحات البطريرك بشارة الراعي، التي وصف فيها النظام السوري بأنّه الأقرب إلى الديمقراطيّة، وبرّرها البعض بأنّه أدلى بها مجاملة للجنرال ميشال عون». هكذا، آنذاك كان الراعي يُجامل عون، والأخير لم يكن رئيساً للجمهوريّة، أمّا الآن فلا مجاملة، إذ يزور السعوديّة خلافاً لرغبة عون… وهو رئيس البلاد! يُمكن الآن أن يُقال، في السياسة، إنّ السعوديّة حقّقت غايتها مِن الزيارة: النكاية بعون. يكتفون بهذا. عقل كعقل إبن سلمان يكتفي بهذا. وبالمناسبة، في الوثيقة الأخيرة ينقل الفيصل لملكه، في فقرة أخرى، أن «حزب الله يُسيطر على الجيش (اللبناني) عبر ضبّاط موارنة»! هذه الوثيقة لم تُكشَف اليوم، بل مضى عليها أكثر مِن عامين، وبالتالي لم يَذكُر «المركز الكاثوليكي للإعلام» إن كان الراعي صحّح للسعوديّة معلوماتها، بعد اجتماعه بالملك وولي عهده، أو إن كان أظهر غضبه أمامهم دفاعاً عن كرامة الجيش اللبناني وعنفوانه، وما شاكل.
البطريرك الراعي رجل دين. لم يكن في استقباله أيّ رجل دين سعودي. لم يجتمع، لاحقاً، بالمفتي ولا بأيّ شيخ مِن المؤسسة الدينيّة الوهابيّة (الرسميّة). غريب هذا على دولة تتحدّث كثيراً في الآونة الأخيرة عن الانفتاح والتسامح (هناك مركز سعودي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات يرعاه الملك سلمان). قبل عامين، اجتمع الراعي بشيخ الأزهر، أحمد الطيّب، أثناء زيارته لمصر. لم يحصل شيء مماثل في زيارته للسعوديّة. البطريرك رجل دين ولكنّه لم يجتمع في السعوديّة، مِن بين المسؤولين، إلا مع شخصيّات سياسيّة. تُرى هل ذلك بسبب الدعوة الشهيرة لمفتي البلاد الحالي، عبد العزيز آل الشيخ، إلى حظر بناء أيّ كنائس جديدة في الجزيرة العربيّة وهدم كلّ كنيسة موجودة؟ (هناك مَن أطلق طرفة تقول إنّ الملك السعودي وعد الراعي بإهدائه كنيسة قديمة هناك).
لم يفت البطريرك لقاء رئيس حكومة لبنان، سعد الحريري، المخطوف والمُهدّد بعائلته، ليخرج مُعلّقاً: «حلو كتير. حلو كتير. وأنا مقتنع كلّ الاقتناع بأسباب استقالته». قال أيضاً: «إنّ ما سمعته مِن المسؤولين السعوديين يُمكن اختصاره بكونه: نشيد المحبّة». فعلاً ذاك نشيد، وآفة الأناشيد أنّ مضامينها تُنسى لكثرة تكرارها. ربّما كان «سفر نشيد الأنشاد» (مِن العهد القديم) أبلغ ما يصف الآن المشهد اللبناني: «هوذا تخت سليمان حوله ستّون جبّاراً مِن جبابرة إسرائيل. كلّهم قابضون سيوفاً ومتعلّمون الحرب. كلّ رجل سيفه على فخذه مِن هول الليل. الملك سليمان عمِل لنفسه تختاً مِن خشب لبنان».