لا يمكن إلا التوقف والتبصّر في القمّة الثنائيّة وحفل توقيع إتفاق السلام الذي جرى يوم الأحد المنصرم، بحضور العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز وولي عهده محمد بن سلمان، وتكريم الملك لموقعيّ الاتفاق الزعيمين الأثيوبي آبي أحمد والإريتري أسياس أفورقي، بقلادة الملك عبدالعزيز.
يرقى الاتفاق الى الحدث التاريخي بإنهائه عقديّن من العداء بين دولتين جارتين، إريتريا المشاطئة للبحر الأحمر وأثيوبيا التي تشكّل عمقها الطبيعي نحو السودان وجيبوتي والصومال، وهو يشير إلى نجاح الدبلوماسية السعودية في تسجيل حضورها في الحدث الأبرز في القرن الإفريقي والى تكاملها الإيجابي مع دولة الإمارات، فالمصالحة الأثيوبية الإريترية تمتّ بدعم منهما. وتتحدث تسريبات عن وجود مساعٍ سعودية للتوسّط بين إريتريا وجيبوتي لضمان التواصل بين رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله وغريمه أسياس أفورقي.
تأتي هذه الاتفاقية في سياق سلسلة من التطورات المتلاحقة إقليمياً:
1 – استعادة المملكة العربية السعودية في نيسان 2016 سيادتها على جزيرتيّ تيران وصنافير الواقعتين عند مدخل مضيق تيران الذي يفصل خليج العقبة عن البحر الأحمر. استعادة الجزيرتين، وإن حاول البعض تصويرها وكأنها انتقاص من السيادة المصرية على التراب المصري، فهي تمثّل تطوراً للأمن القومي العربي أملته القدرات السعودية المتزايدة عسكرياً واقتصادياً. الجزيرتان تشكّلان أساساً لمشروع «نيوم» الذي يقع على أراضٍ مصرية أردنية سعودية والذي يمتدّ على طول 460 كلم من ساحل البحر الأحمر، ويمكن لـ70% من سكان العالم الوصول للموقع خلال 8 ساعات كحدّ أقصى، وهو يمثّل منطقة اقتصادية خاصة من حيث القدرة التنافسيّة وفرص العمل المتميّزة.
2 – زيارة الرئيس أردوغان إلى السودان، في ديسمبر/كانون الأول 2017، وموافقة السودان على تخصيص جزيرة سواكن الواقعة في البحر الأحمر لتركيا كي تتولى إعادة تأهيلها وإدارتها لفترة زمنية. الجزيرة المذكورة تمتلك موقعاً استراتيجياً مهماً على الساحل الغربي للبحر الأحمر، شرقي السودان، وتُعدّ جزيرة محميّة، وتبعد عن الخرطوم حوالي 560 كيلومتراً، وقرابة 70 كيلومتراً عن ميناء السودان الرئيسي. هذا بالإضافة الى البعد التاريخي والاستعماري للجزيرة التي استُخدمت من قِبَل الدولة العثمانية كمركز لبحريتها، وضمّ ميناؤها مقرّ الحاكم العثماني لمنطقة جنوب البحر الأحمر بين عاميّ 1821 و1885. ويهدف المشروع، بحسب الجانب التركي، إلى استكمال ترميم الجزيرة، بما يتوافق مع تاريخها وماضيها الثقافي، وتحويلها إلى مركز للسياحة الثقافية في المنطقة، من خلال تنفيذ مشاريع مشتركة بين المؤسسات التركية والسودانية، خلال المرحلة القادمة، ويتضمن توقيع اتفاقية للصناعات الدفاعّية.
3- الموقع الجيواستراتيجي لأريتريا الذي جعلها بالنسبة لإسرائيل كما بالنسبة لإيران كنزاً يصعب التفريط فيه، فهي دولة صغيرة لكن إطلالتها على البحر الأحمر مقابل السعودية واليمن تجعلها على تواصل مع المحيط الهندي، وكذلك على طرق الملاحة باتّجاه إيران، ما يحوّلها إلى ذخر أمني. إذ أقامت كلّ من إسرائيل وإيران في أريتريا قواعد عسكرية، ومحطات تنصّت على العديد من الجزر الإريترية في البحر الأحمر، وهي تؤمّن بيئة نموذجيّة لعمليات تهريب السلاح الإيراني عبر البحر الأحمر الى الحوثيين وعبر سيناء الى قطاع غزة.
المصالحة الإثيوبية الأريترية تمثّل تحوّلاً دراماتيكياً في خارطة التحالفات الإسرائيلية والإيرانية، وفرصة عربية واعدة للتأثير في الصراعات التي يشهدها البحر الأحمر. فالقوى الإقليمية التي تمكّنت من تأمين أكثر من موطئ قدم في دول القرن الإفريقي وجزره على خلفية الحروب الدائرة في الصومال واليمن، تسعى دائماً لتحقيق مواقع إضافية لها لفرض هيمنتها على حرية الملاحة في الممر المائي الذي بات الخط البحري الأكثر ازدحاماً في العالم. هذا من دون إسقاط الأدوار الجديدة المترتبة على الصراع الدائر بين دول نهر النيل، مصر والسودان وأريتريا وإثيوبيا، والمتمثّل بسدّ النهضة الذي تبنيه الأخيرة على النيل الأزرق، وبالقلق المصري على مستقبل ثروتها المائية الذي زاد بعد اتفاق السودان وإثيوبيا على إقامة جيش خاص لحماية هذا السدّ والدفاع عنه.
تراجع القوى التقليديّة في منطقة الشرق الأوسط وتعاظم الخطر الإيراني يقدّمان فرصة جاذبة لرسم خريطة جديدة للمنطقة العربية والتفكير بحلول خارج الصندوق. تسعى الرياض إلى توسيع دائرتها الجيواستراتيجية في القرن الإفريقي والى حشد العدد الأكبر من دوله في المواجهة المفتوحة. الاقتصاد ليس الدافع الحقيقي الذي يحرّك المملكة العربية السعودية، حتى وإن أرادت إظهاره كذلك. الهدف هو الاستعداد لمواكبة ومواجهة تغييرات سياسية قادمة لا محال الى المنطقة العربية، والجزر هي المقدّمة فقط .