تندرج القمم التي انعقدت في مكة بدعوة من المملكة العربية السعودية في سياق الحرب الدفاعية التي تخوضها الأكثرية العربية في مواجهة المشروع التوسّعي الايراني. حققت القمم الثلاث الهدف المطلوب، أي التوصل الى ادانة عربية وخليجية وإسلامية للسلوك الايراني الهادف الى تمزيق المنطقة كلّها من اجل بلوغ هدف واضح. يتمثّل هذا الهدف في تحوّل ايران الى قوّة إقليمية مهيمنة تتفاوض من موقع قوّة مع «الشيطان الأكبر» الاميركي و»الشيطان الأصغر» الإسرائيلي وتحدد معهما مصير المنطقة. هذا بكل بساطة ما لم تقبل القيادة السعودية التي اخذت على عاتقها، مع شركائها الخليجيين، مهمّة وضع الامور في نصابها وتأكيد انّه لا تزال للعرب كلمتهم في تقرير مصير المنطقة.
يؤكد العرب من خلال القمم الثلاث انّهم جزء من المنطقة ولاعب أساسي على الصعيدين الشرق اوسطي والعالمي وان مصير المشرق العربي والخليج لا يتقرّر في طهران ومن طهران. هذا كلّ ما في الامر. صبر الخليج طويلا قبل ان ينتفض في وجه محاولات الهيمنة الايرانية التي تستهدف الغاءه مع كلّ ما في كلمة إلغاء من معنى.
منذ اليوم الاوّل لانتصار الثورة الايرانية في العام 1979، وكانت ثورة شعبية حقيقية على نظام الشاه الذي فقد كلّ علاقة مع الشارع الايراني ونبضه لاسباب مختلفة، اتخذت ايران موقف عدائيا من محيطها العربي. سيطرت فكرة «تصدير الثورة» على عقل آية الله الخميني الذي استطاع في نهاية المطاف فرض نظام جديد على قياسه في ايران وذلك تحت تسمية «الجمهورية الإسلامية».
لم يتخذ الجانب العربي في يوم من الايّام موقفا معاديا من الذي يحدث في ايران. على العكس من ذلك، كان هناك تعاطف عام مع الشعب الايراني، خصوصا ان الشاه المريض كان يسعى في السنوات الأخيرة من عهده الى لعب دور لم يعد قادرا على لعبه في الاقليم، بما في ذلك دور شرطي الخليج.
لم يحصل يوما ان أظهرت «الجمهورية الإسلامية» انّها مختلفة في شيء عن نظام الشاه في تعاطيها مع الجانب العربي عموما واهل الخليج على وجه الخصوص. الأدلة على ذلك لا تحصى. على رأس هذه الادلّة رفض التفاوض في شأن الجزر الاماراتية الثلاث أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى التي احتلها الشاه في العام 1971. ما الفارق بين تصرفات نظام الشاه وتصرفات نظام الخميني؟ اثبتت السنوات الاربعين الاخيرة ان لا فارق يذكر، بل ربّما كان نظام الشاه اكثر رأفة بالايرانيين واكثر رغبة في رفع مستواهم المعيشي واكثر تطلعا الى جعلهم جزءا من العالم المتحضّر واكثر انفتاحا على التعليم في ارقى جامعات العالم، بما في ذلك جامعات الولايات المتحدة واوروبا.
المهمّ الآن ان القمم الثلاث اثبتت ان هناك لاعبا عربيا في المجال الإقليمي. اكثر من ذلك، ان العرب اخذوا علما بالموقف الاميركي الذي اتخذته إدارة دونالد ترامب من ايران وتفاعلوا معه. لم يعن ذلك أي تنازلات على الصعيد الفلسطيني او في ما يخصّ القدس وحتّى هضبة الجولان المحتلّة التي لم يسع النظام السوري يوما الى استعادتها.
رفض العرب العاقلون الدخول في لعبة تسمّى «صفقة القرن». اذا كان لدى الإدارة الاميركية ما تطرحه في هذا المجال فلتتفضّل وتفعل ذلك. امّا الحديث منذ الآن عن موقف من تسريبات عن هذه الصفقة فهو مجرّد مزايدات من النوع المضحك المبكي. حسنا، دُعي الى مؤتمر اقتصادي في البحرين للبحث في الجانب الاقتصادي لهذه الصفقة. لماذا لا تجري مناقشة للطرح الاميركي المتعلّق بالجانب الاقتصادي لـ»صفقة القرن»، هذا في حال كانت هناك فعلا صفقة ذات جانب سياسي ايضا تحرم الفلسطينيين من التفكير في قيام دولة مستقلّة؟
فوق ذلك كلّه، يبدو كلّ شيء مؤجّلا في الوقت الحاضر في غياب حكومة إسرائيلية قادرة على اتخاذ قرارات كبيرة. هناك حال من الفوضى السياسية في إسرائيل يشكل فشل بنيامين نتانياهو في تشكيل حكومة خير تعبير عنها. سيكون على إسرائيل انتظار الانتخابات الجديدة في أيلول – سبتمبر المقبل قبل قيام حكومة فيها قادرة على التعاطي مع طرح متعلّق بـ»صفقة القرن».
في كلّ الأحوال، ان ايران وادواتها في المنطقة، تستخدم «صفقة القرن» لتبرير رفض التعاطي مع الواقع. الواقع يقول ان العرب موجودون في المنطقة وان من يراهن على غيابهم هو كمن يراهن على سراب. كذلك، ان العرب اظهروا من خلال القمم الثلاث ان في استطاعتهم تكوين شبه اجماع إسلامي رافض للعدوانية الايرانية التي عبرت عنها الهجمات على مرافق نفطية في السعودية وعلى سفن تجارية قبالة ميناء الفجيرة الاماراتي. بكلام أوضح، كان ما حقّقته السعودية، من خلال استضافتها القمم الثلاث، اقرب الى معجزة من ايّ شيء آخر. يصعب على أي دولة أخرى في العالم الدعوة الى قمم ثلاث في هذه الفترة الزمنية القصيرة والخروج بموقف في هذا الوضوح من السياسة التي تنتهجها ايران وادواتها، بمن فيهم الحوثيون.
اثبتت القمم الثلاث ان ايران معزولة اكثر من ايّ وقت وان من المفترض ان تمتلك قرارا شجاعا بالتفاوض مع الولايات المتحدة وفق الشروط الاميركية الـ12 التي سبق لوزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو ان حددها سابقا. لا عيب في ذلك، خصوصا ان كلّ ما هو مطلوب ان تعود ايران دولة طبيعية تعرف حجمها الحقيقي وتفكّر بشعبها ومشاكلها الداخلية اوّلا.
يبقى ان لبنان الذي شارك في قمتين من القمم الثلاث، كان لبنان الحقيقي. لبنان العربي اوّلا المتصالح مع بيئته الطبيعية، لبنان المتصالح مع نفسه اوّلا. كان الرئيس سعد الحريري يمثل في القمّة العربية والقمّة الإسلامية لبنان الحرّ صاحب الرأي المستقلّ وليس لبنان التابع لإيران الذي لا عمل لديه سوى تهديد العرب واهل الخليج. ففي ذلك إساءة الى لبنان واللبنانيين اكثر من ايّ شيء آخر.
هذا ليس وقت البطولات الوهمية والشتائم والكلام عن مصانع صواريخ لا تقدّم ولا تؤخّر في شيء. هذا وقت ادراك انّ ايران لا تستطيع الانتصار على اميركا او على إسرائيل. كلّ ما تستطيع عمله هو تحقيق انتصارات على العرب الآخرين، على العراق وسوريا ولبنان واليمن. من يحتاج الى دليل على ذلك، يستطيع العودة الى «يوم القدس» الذي احيته ايران يوم الجمعة الماضي. اين القدس التي تدعو ايران الى تحريرها؟ كلّ ما فعلته ايران انّها تاجرت بالقدس بهدف واحد وحيد هو احراج العرب.
مشكلة ايران انّها صارت مكشوفة اكثر من الزوم في عالم تغيّر كلّيا ولم تستطع التكيّف مع هذه التغييرات بما في ذلك مع ما يعنيه ان تتمكن المملكة العربية السعودية من عقد ثلاث قمم في مكة في هذا الوقت وفي هذه الظروف بالذات…