لو كان مَن تحدّث عن «شعوب سورية» أحداً آخر غير فلاديمير بوتين لأمكن القول أن هذا تخريف خالص، أما وأن الرئيس الروسي هو القائل، بل يريد تنظيم مؤتمر للحوار بين هذه «الشعوب» في قاعدة حميميم العسكرية، فهذا ليس سوى محاولة روسية جديدة للتلاعب بعناصر الحلّ السياسي المتوافق عليه دولياً، وخطوة أخرى نحو تهميش المعارضة الأكثر تعبيراً عن طموحات الانتفاضة الشعبية السورية، وقبل كل شيء استعراض برسم الراغبين في إعادة الإعمار لإظهار أن الوضع يعود إلى طبيعته. فموسكو تشتغل على مَن وما تسيطر عليه، وتسعى إلى استقطاب ما ومَن لا تسيطر عليه، لكنها دائبة البحث عن «معارضة موالية» لا مشكلة لديها مع استمرار بشار الأسد ونظامه. هذا المعيار ينطبق على «معارضين مزيّفين» جُمعوا في منصّتَي موسكو وحميميم، وكذلك على أكراد «حزب الاتحاد الديموقراطي»، إذ إن هؤلاء لا يهمهم مَن يحكم في دمشق طالما أنه لا يعرقل إقليمهم «الفيديرالي».
إمّا أن «الشعوب» مصطلح اعتباطي ومتسرّع، أو أنه استُخدم خطأً فأوحى بغير ما قُصد به، أو أنه ببساطة لا معنى له. إذا كان بوتين يقصد بـ «شعوبـ»ـه السورية التنوع العرقي، فإنها موزّعة بين 92 في المئة من العرب و8 في المئة من الكرد والأرمن والسريان والشركس والتركمان والآشوريين. وإذا كان يشير إلى التعدّد الديني فهذه طوائف ومذاهب وليست «شعوباً». وحتى لو عنى القبائل والعشائر، أو تنوّع اللغات، أو التوزّع الجغرافي – الجهوي، أو أخيراً الانقسام السياسي… فإنه لن يتوصّل إلى جماعات بالمواصفات المتّبعة لتصنيف «الشعوب»، كما هي حال شعوب الاتحاد الروسي، لكن مصطلحه غير المدروس أثار ارتياباً مشروعاً في مفهومه بأن هناك شعوباً وليس شعباً سورياً، وكذلك في رؤيته إلى مجمل الأزمة السورية التي عُهدت إليه إدارتها ومواكبتها إلى حلول سلمية – سياسية. فكيف يمكن أن يصدّق العالم أن تقطيع الخريطة السورية إلى «مناطقَ خفضٍ للتصعيد» والحديث عن «شعوب سورية» ليسا مسودةً تمهيدية للتقسيم. الأرجح أن «مؤتمر الشعوب» يرمي خصوصاً إلى استيعاب الأكراد لئلا يبقوا في كنف الأميركيين الذين سلّحوهم وكلّفوهم مقاتلة تنظيم «داعش» لمصلحتهم.
لم يقل الرئيس الروسي أياً من هذه الشعوب يمثله نظام الأسد، أم إنه في نظره يمثّلها جميعاً، وأين مجتمع الأسد «الصحّي» و «الأكثر تجانساً» من هذا التصنيف، وفي أي شعب يمكن إدراج «المستوطنين» غير السوريين الذين استقدمتهم إيران وعملت على تجنيسهم؟ لكن هناك أيضاً أكثر من ثمانية ملايين لاجئ ونازح. والنازحون ماذا عنهم وعن نحو خمسة ملايين مهجّر في الداخل؟ الأسد والإيرانيون يعتبرون أن ثلث السكان الذي أصبح في الخارج أمكن التخلّص منه ولا يريدون البحث في عودته أو تمكينه من العودة، أما المهجّرون فالأفضل أن يبقوا حيث توطّنوا. ولا أحد يعرف ما الذي يفكّر فيه الروس بالنسبة إلى هذا الملف، فهم لا يختلفون كثيراً عن النظام والإيرانيين عندما يتعلّق الأمر بقضية إنسانية. لكنهم يواجهون جميعاً هذا الملف عندما يقاربون استحقاق إعادة الإعمار. كيف؟
تبدي موسكو ودمشق استعجالاً واضحاً لتحريك إعادة الإعمار، فيما تحاول طهران مقاربته على نحو التفافي. لكن هذا الثلاثي واقع تحت عقوبات دولية، فنظام الأسد مفلس وروسيا وإيران غير قادرتَين، ويعتقد كل طرف أن لديه فرصاً وحوافز يعرضها على الدول المموّلة أو المانحة. يريد النظام إعادة الإعمار مصيدة للأوروبيين ليقايض الصفقات والعقود بـ «التطبيع» معه لإحياء «شرعيته»، ويتخذ منها الروس وسيلةً لمساوماتٍ في كل الاتجاهات. وإذ يعتبرها الإيرانيون نقطة ضعفهم، فإنهم يحاولون التذاكي للإمساك ببعض أوراقها من خلال الإيحاء بل الإيهام بأنهم يتفهّمون الشروط الأوروبية ويريدون التعامل معها. هذه الشروط تُختصر بانتهاء الصراعات المسلّحة والاتفاق على عملية سياسية توضح معالم العودة إلى الاستقرار، إضافة إلى إيجاد خطة ذات صدقية لمشاريع إعادة الإعمار. وتعتمد طهران على علاقتها الوثيقة برأس النظام لتطرح عبر قنوات خاصة صيغاً سياسية ووعوداً بصفقات يمكن أن تكون مغرية للأوروبيين إذا أعادوا علاقاتهم رسمياً مع النظام، لكن حتى لو كان الأوروبيون مستعدّين للتنازل عن الجوانب السياسية، فإنهم لا يُلقون بأموالهم عشوائياً ولا يستطيعون التهاون في شروط الحوكمة والضمانات.
في أي حال، لم يعد أحد يجهل أن الكلمة الأولى والأخيرة في سورية باتت لروسيا، لا لإيران ولا للنظام. ومَن كان يعتقد غير ذلك، فقد شكّلت زيارة الوفد الذي ترأسه وزير خارجية النظام إلى سوتشي رسالة إلى الدول كافةً بأن ملف إعادة الإعمار في يد روسيا. كل ما استطاعه وليد المعلم هو أن يصرّح بشكوى النظام من استيلاء أكراد «قوات سورية الديموقراطية» على حقول النفط في دير الزور. وهي شكوى إيرانية أيضاً، ليس تضامناً مع الأسد وإنما احتجاجاً على تقاسم دير الزور في «التفاهمات» الروسية – الأميركية. غير أن الشكاوى الإيرانية من سلوكات روسيا تتزايد باستمرار، سواء مع تركيا في شأن إدلب أو خصوصاً مع إسرائيل ورسم الخطوط الحمر للوجود الإيراني في جنوب سورية. ومن الواضح أن بوتين لا يكترث للاحتجاجات، بل ينظر فقط إلى التقدّم الذي تحرزه الخطط الروسية، فبعد «مناطق خفض التصعيد» ستكون الخطوة التالية، وفق ما قال «مؤتمر شعوب سورية لمصالحة الحكومة والمعارضة». وبالتالي، فإنه يعمل حصرياً على اختتام مسار آستانة لينتقل إلى مسار حميميم، وكلاهما خارج إشراف الأمم المتحدة، وإذ تهيمن موسكو على مسار جنيف وتدير عقمه ومراوحته، فإنها تستخدمه للتمويه ولتسهيل مسارَيها الآخرَين.
هل من علاقة بين فكرة «مؤتمر الشعوب» وبين إعادة الإعمار؟ بطبيعة الحال، فكلّ الملفات مترابطة، بما في ذلك إنهاء الصراع المسلّح والقضاء على جيوب الإرهاب والعملية السياسية. وقد برهنت روسيا أنها قادرة على إحداث تغيير بالقوة العسكرية مستغلّة ركاكة موازين القوى على الأرض، أما قدرتها على التغيير الآخر المطلوب بالقوة السياسية فلا تزال موضع تساؤل واختبار، نظراً إلى ميلها إلى لَيّ الحقائق والتلاعب بها والتعامي عن الأسباب الواقعية للأزمة. وإذ توحي روسيا حالياً بأنها باشرت فعلاً تنشيط ملف الإعمار، فإن مقارباتها الأولية مع «رجال أعمال النظام» أظهرت لها أن هؤلاء لم يأتوا لعرض مساهماتهم المحتملة، وإنما لاستكشاف ما إذا كانت لديها تمويلات، ثم إنهم بحكم العادة يبحثون عن مكاسب سريعة وسهلة. وفيما تفتح روسيا تفاوضات مع حكومات أوروبية لرسم خرائط الصفقات، فإنها تريد فرض معاييرها على الإعمار الذي يفترض أن يكون جهداً دولياً، وتحاول تعويض عجزها عن الإعمار بقوّة احتكارها توزيعَ العروض، لكنها لم تبدِ مثلاً أي اهتمام بقضية اللاجئين التي تعرف أنها مثار قلق للدول المموّلة، ولم تقدّم أي تعهّد بأن تشمل نشاطات التنمية والإعمار جميع «الشعوب» السورية المنكوبة، خلافاً لرغبات نظام الأسد في توجيهها إلى «شعوبـ»ـه ومناطقه.
لكن المهمّ أن صيغة الحل السياسي الذي تعمل عليها روسيا تبقى أقرب إلى صيغة محورها الأسد ونظامه، أي أبعد ما تكون عن إقامة سلام داخلي يطمئن «الشعوب» إلى مستقبلها. وتبدو مقاربتها لاستحقاقات ما بعد الحرب مكشوفةً بتمحورها على مصالح «روسيا أولاً» وليس مصالح سورية والسوريين، والمؤكّد أن حساباتها السورية والأوكرانية والإقليمية ستتخذ منحًى ابتزازياً في إدارة ملف إعادة الإعمار. لذلك، استفزّها مثلاً أن الولايات المتحدة ودولاً أوروبية سترسل «مساعدات إنسانية» إلى الرقة، حتى إنها اعتبرتها محاولة لـ «إخفاء آثار القصف الوحشي» كأن القصف الروسي لحلب كان أقلّ وحشية. أما الأهمّ فهو أن موسكو أصبحت مدركة أن المجتمع الدولي قد يتقبّل «السلام الروسي» في سورية ولو بوجودٍ مشروط للأسد، لكنه لا يمكن أن يدعم «سلاماً» كهذا بوجود الأسد وإيران معاً. وطالما أن السلام بعيد، فإن «شعوب سورية» سئمت الجميع: النظام وإيران، وكذلك روسيا.