ميزة لبنان التي عرف بها عبر العصور، وتحديداً منذ فجر المسيحية، انه كان مساحة لجوء هرباً من اضطهاد، وكانت طبيعته الوعرة تشكل ملجاً آمناً خصوصاً في الشمال حيث كان المحطة الاولى للمسيحيين الهاربين من سوريا، قبل تمددهم لاحقاً الى جبل لبنان ومناطق اخرى، وبعد ظهور الاسلام وبدء الفتوحات، وتعدّد المذاهب. استقبل لبنان موجة جديدة من اللجوء الاسلامي، وبعدها بعدة قرون اللجوء الارمني، ثم اللجوء الفلسطيني، وفي ايامنا هذه اللجوء السوري الواسع، واللجوء العراقي، ومن الطبيعي ان يحمل كل شعب لاجىء خصوصية معه الى لبنان، وتقاليده ومعتقداته، حتى اصبح في لبنان اليوم ثماني عشرة طائفة، خلافاً «لطائفة» العلمانيين، وحيث ان الانتماء الى لبنان الوطن، كان ولا يزال وجهة نظر عند فريق من «اللبنانيين»، شرحتها ببعض الايجاز في المقالة الاولى، فان الانظمة والقوانين اللبنانية، المتوارثة منذ الاحتلال العثماني والانتداب الفرنسي واستقلال لبنان، وكذلك الدستور، عرضة للأخذ والرد، وفق توجه كل طائفة ومذهب، ولم يعد اللبنانيون متفقين على شيء في هذا الوطن، وليس في هذا القول مبالغة، ولذلك فان العيش المشترك او ما يسمى بالعيش الواحد، اصبح من سابع المستحيلات، وانقسم الشعب الليناني الى فريقين اثنين، يضمّ كل فريق مسلمين ومسيحيين فريق يريد العيش في ظل دولة كاملة الصلاحيات، كاملة السيادة، كاملة الانتماء، بسلام وامان واستقرار وبنمط عيش لا يفرضه عليه احد، وفريق يريد العيش في بيئة مقاتلة، السلام فيها مفقود، والامان غير متوفر، والاستقرار، مرتبط بجولات الحروب، ونمط عيش مختلف، واللافت الايجابي في الامر، ان الفريقين متفقان على ان اسرائيل، عدو، والفكر التكفيري عدو، لكنهما يختلفان على طريقة مواجهة العدّوين، بالحدة ذاتها التي يختلفان فيها حول باقي القضايا وهي كثيرة ـ كثيرة، بحيث تحوّل لبنان الى برج بابل، لا احد يفهم على احد، او احدا لا يريد ان يفهم على احد، واصبح واجباً الرسو على صيغة ترضي الطرفين، وتحقق عدم الوصول الى بعض الحلول، وهي حلول اللجوء الى سفك الدماء، والحلّ موجود في دستور الطائف الذي وافق عليه الجميع، وهو انشاء اللامركزية الادارية الموسّعة، كخطوة اولى اساسية نحو الغاء الطائفية في انتخابات المجلس النيابي، وانشاء مجلس للشيوخ على اساس طائفي، وتعطى الاقضية والمناطق المشمولة باللامركزية الحقوق الكاملة في ادارة شؤون الناس والسكان وفق انتخابات شعبية نزيهة، وتبقى العملة الوطنية والجيش الوطني موحّدين، وتكون مهمة الجيش حماية لبنان من اي اعتداء خارجي، ويمكن ان يتدخل في الداخل بناء للطلب وموافقة رئىس الجمهورية، واذا اردنا ان نحافظ على وحدة الوطن، تعطى هذه اللامركزية الموسعة فرصة معقولة لاثبات نجاحها وجدارتها، قبل التفكير بالعودة الى الصيغة الحالية، او البحث عن صيغة اكثر راديكالية، وهذا بحث آخر.