عندما يصل البلد المأزوم الى قعر الهاوية الذي ليس تحته قعر آخر، يواجه أحد خيارين: اما تسلّق الجبل من جديد، واما البقاء حيث هو في القعر ليدفن لاحقا تحت الركام المتساقط من القمة! من مؤشرات الصعود اللبناني الجديد، تجاوز مرحلة الشغور الرئاسي الطويلة، وبزوغ عهد جديد بتوافق وطني مفاجئ في توقيته، ولكنه متكرر في تاريخ لبنان الاستقلالي. صحيح أن الصعود بدأ ولكن رحلة الخروج من الهاوية لم تنته، ولم تصل بعد الى خواتيمها السعيدة. وعصف الأزمات التي ترافق رحلة الصعود تتخذ في هذه الآونة أشكالا مختلفة، منها تلمّس العميان لفيل قانون الانتخاب، ومنها حمى سلسلة الرتب والرواتب، وحرب الضرائب المستعرة بين بدو الفقراء الرحّل في بلدهم، ومجوس المال والاحتكار والفساد ولصوص المال العام والخاص!
***
عندما انفجر لبنان في حرب العام ١٩٧٥، كان محيطه الاقليمي ينعم باستقرار ظاهري وطمأنينة مصطنعة للحكام برسوخ قعدتهم على الكراسي، في حين كانوا متورطين البعض منهم في حرب غير مباشرة ضد بعضهم بعضا، على الأرض اللبنانية، بما عرف لاحقا ب حرب الآخرين على أرض لبنان. واليوم تنفجر المنطقة برمتها، في حين يوهم لبنان نفسه بأنه ينعم باستقرار ظاهري، دون أن يعرف حتى جهابذته الى متى! البقاء في الهاوية ليس قدرا، لكن الخروج منها فعل ارادي وسيادي. ولعل الطبع السياسي اللبناني من معوقات الخروج من القعر ومن المحنة. ذلك ان التركيبة الطائفية الموروثة من الانتداب الأجنبي استمرت بالتفاعل، وتغلّبت على المناعة الوطنية، المرة تلو المرة. ولهذا السبب أصيبت الطبقة السياسية اللبنانية بلوثة جعلتها تألف خيار الحلول بالطريقة الصعبة، لا الخيار بالطريقة الليّنة والسهلة!
***
من شذّ عن هذه القاعدة هو الرئيس نبيه بري… إذ كلما وجد الربع السياسي يتجه نحو مناطحة الصخرة أو التناطح في ما بينهم بغريزة الانجذاب نحو الحل الصعب، بادر الأستاذ الى ابتكار طريقة لتحويل فوضوية ديناميتهم الى مجرى أكثر سلاسة ولينا وسهولة. وعندما انفجر البركان باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ابتكر الرئيس بري فكرة طاولة الحوار لمحاصرة الذيول الكارثية، وكان ذلك في ٢٠ آذار ٢٠٠٦ واستمرت نحو أربعة أشهر. واستأنف المحاولة نفسها بعد حرب تموز، ٢٠٠٦ وأعطاها الصفة التشاورية لكسر الجليد بين المكونات اللبنانية، واستمرت لأسبوعين. وعندما غرق لبنان في الشغور الرئاسي الطويل، وبدا وكأن الطاولة تخلّعت، ابتكر الأستاذ فكرة السلّة المتكاملة بثلاثة بنود: انتخاب رئيس الجمهورية، وقانون انتخاب وانتخابات نيابية في موعدها، والحكومة الجديدة.
***
الدلائل تشير الى أن حشر الطبقة السياسية للخروج بحلول للاستحقاقات، يقود الى ايجاد المخارج في مهلة لا تتجاوز أربعة أو خمسة أشهر… لو فهم السياسيون في حينه فلسفة الطاولة ثم فلسفة السلّة، لكانوا وفّروا على اللبنانيين كل هذا الزعيق والارتباك والفوضى التي يغرقون فيها اليوم!