في التاسع من تشرين الثاني 1977 أذهلَ الرئيس المصري الراحل أنور السادات العالم بخطابه الذي ألقاه أمام مجلس الشعب، حين قال: «ستُدهش إسرائيل حينما تسمعني الآن أقول أمامكم إنني مستعد للذهاب الى بيتهم نفسه الى الكنيست الاسرائيلي ذاته».
وبعد عشرة أيام نفّذ السادات كلامه وهبطت طائرته في مطار بن غوربون، معترفاً بوجود إسرائيل.
وفي 17 ايلول 1978 تمّ توقيع اتفاقية كمب ديفيد التي خَلت من أي ذكر للقضية الفلسطينية.
وبغضّ النظر عمّا كشف لاحقاً من أنّ الخطاب الصادم للسادات كانت قد سبقته اتصالات سرية بين القاهرة وتل أبيب تولّى جزءاً منها الرئيس الروماني يومها نيكولاي تشاوشيسكو، الّا انّ الحدث شكّل انعطافة كاملة وبداية حقبة جديدة في المنطقة رَسّختها الحروب الكثيرة التي حدثت.
فبعد أن شَكّل الغزو الاسرائيلي لجنوب لبنان عام 1978 اختباراً لمدى ثبات اتفاقية كمب ديفيد، جاء الاجتياح الاسرائيلي حتى العاصمة بيروت عام 1982 بمثابة تدشين عصر جديد في المنطقة، والذي جاء تطبيقاً للمعادلة القائلة: «لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سوريا».
وتوالت الحروب من بعدها، الحرب العراقية ـ الايرانية رغم احتلال صدام حسين للكويت وما تلاها من حرب الخليج الاولى، فـ«اتفاق أوسلو» بين الاسرائيليين والفلسطينيين عام 1993، وبعدها «اتفاق وادي عربة» مع الاردن عام 1994، قبل ان يوقف اغتيال اسحق رابين هذا المسار.
لكنّ الاهم انّ كل هذه الاحداث حصلت في ظل غياب مصر. اليوم إعلان «صفقة العصر» في واشنطن، أو بتعبير أوضح، إعلان تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء حلم الدولة المستقلة. وهي خطوة تؤذن لمرحلة جديدة تماماً كما حصل مع زيارة السادات لإسرائيل.
صحيح انّ توقيت ما حصل في واشنطن هدفه انتخابي بالدرجة الاولى في ظل الواقع المأزوم لدونالد ترامب وبنيامين نتنياهو على حد سواء، الّا انه لا يمكن إغفال التأثيرات السياسية والامنية لما حصل.
فالصحافة الاسرائيلية حفلت بالتحليلات التي أبدت فرحها بالسخاء الكبير لصفقة القرن. وربما جاء توصيف الرئيس السابق للمخابرات العسكرية الاسرائيلية عاموس يادلين، وهو الذي يترأس معهد دراسات الامن القومي، الأكثر وضوحاً حين قال انّ الخطة هي مثالية لإسرائيل من حيث المطالب الامنية. وأضاف: «بالنسبة الى الأمن حصلت اسرائيل على كل شيء».
وفيما يعمل نتنياهو على استثمار هديته في حملته الانتخابية، لم تكن الصورة مختلفة في واشنطن. فالمبعوث الاميركي السابق الى الشرق الاوسط جيسون غرينبلات باشَر في تخويف اليهود الاميركيين، وهم في معظمهم من الديموقراطيين، من عدم انتخاب ترامب. فحذّر من انّ عدم انتخاب ترامب لولاية ثانية من شأنه أن يعرّض صفقة القرن للخطر. وفي المقابل نَدّد أعضاء ديموقراطيون في الكونغرس بالخطة، مؤكدين أنها لن تساعد على تحقيق السلام.
صحيح انّ هذا التحذير يهدف قدر الامكان الى التخفيف من التأثير الانتخابي على اليهود، الّا انه يحمل في طيّاته حقائق كثيرة. فكما التهَب الشرق الاوسط بعد كمب ديفيد، فإنّ أحداثاً أمنية ستشهدها المنطقة ولو بصيغة مختلفة. ففيما لا يهتم ترامب وفريقه ونتنياهو وحزبه سوى لصناديق الاقتراع، فإنّ التوقّع المنطقي لمسار الاحداث يُنبئ باستعادة الحركات الاسلامية المتطرفة حيويتها وزَخم عملها استناداً الى الرمزية الكبرى للقدس، واستئناف نشاطها داخل البلدان العربية وضد أنظمتها. وهو ما سيضع كثيراً من البلدان في دائرة العناية الخاصة، مثل مصر والاردن والخليج العربي.
ومن المنطقي الاستنتاج أنّ لبنان لن يكون بعيداً عن هذه التأثيرات حيث الحضور الفلسطيني الوازن والمسلّح في عدد من المخيمات.
وفي الولايات المتحدة الاميركية كلّف ترامب المسؤولين عن الترويج لحملته الانتخابية تسويق إنجازه من خلال حملة اعلامية ودعائية «ذكيّة»، وفي الشرق الاوسط تعقيدات اضافية ستشهدها الساحات الداخلية لعدد من الدول العربية.
وفي تقرير لمعهد «ابحاث الامن القومي» في جامعة تل ابيب منذ نحو الاسبوعين، تم إعداد دراسة حول الوضع في لبنان في ظل التطورات الحاصلة، وجاء في نهايتها أنّ حاجة لبنان الماسّة الى مساعدات خارجية من شأنها إتاحة الفرصة لإسرائيل للتأثير على شروط المساعدات التي تتيح عملية إنقاذ لبنان، بما في ذلك مطلب تقليص تسلّح «حزب الله».
وربما تعمّدت الدراسة إخفاء مطالب أخرى، مثل القبول بتوطين الفلسطينيين في لبنان وترسيم الحدود البحرية وفق المصلحة الاسرائيلية.
وفي الواقع يتوقع كثيرون استمرار التدهور الخطير للاقتصاد اللبناني. وسيتزاحم أهل الطبقة السياسية الحاكمة على وضع اللوم على الاطماع والمؤامرات الخارجية كسبب للانهيار الذي يعيشه لبنان وصولاً الى الواقع الحالي، وسيجدون في ذلك طريق هروب من مسؤوليتهم عمّا آلت اليه الاوضاع. ولا شك في أنّ اسرائيل، ومعها العواصم الغربية، لن تسمح بمساعدة لبنان وإنقاذ اقتصاده المُنهار الّا في مقابل أثمان سياسية تخدم مصالحها، إلّا انّ الحقيقة واضحة وهي أنّ الفساد الذي أوصَل البلاد الى الانهيار هو من صنع أيدي الطبقة السياسية الحاكمة، والتي بَدّلت من شركائها عند كل مرحلة من مراحلها.
وبالتالي، فإنّ المؤامرة هي من صنع لبناني عنوانه الفساد. وفي آخر دراسة له عبر مؤسسة «بروكينغز» الاميركية تَوقّع السفير الاميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان تفاقم الازمة الاقتصادية والمالية اكثر، وقال: «المصرفيون والاقتصاديون يحضّرون أنفسهم لانكماش اقتصادي يضاهي الانكماش اليوناني، أي بنسبة 25% أو اكثر، لكن مع فارق انعدام قدرة التحمّل الداخلية والشراكة الاوروبية اللتين اتّسَمت بهما اليونان. وتوقّع فيلتمان ان ترتفع البطالة الى 50% علماً أنّ نسبتها الحالية تبلغ 25%. وخَلص الى القول انّ الازمة الاقتصادية والمالية الحادة تعطي حافزاً للعمل، وستشعر الحكومة الجديدة بأنها مرغمة على الاستجابة للحركة الشعبية على الارض».
وفيما نقل فيلتمان توقعات بأكبر موجة هجرة للمسيحيين منذ العام 1991، فإنه أشار في قراءته الى أنه «في حال كان عمر هذه الحكومة مختصراً كما يتوقع كثيرون أو يأملون، فإنّ التحديات نفسها ستواجه حكومة تضمّ أفضل الوزراء».
ويبقى ضرورة التذكير أنّ مؤشر الفساد لعام 2019 أبقى لبنان في المرتبة 137 عالمياً. ألا يعني ذلك شيئاً؟