Site icon IMLebanon

نقطة الإنفصال الأميركي عن روسيا في سوريا

ستَطول قصّة سوريا. ستَطول بعدما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إتمام المهمّة منتصراً في سوريا في توقيت سابق لأوانه، تماماً كما فعَل الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش بإعلانه إتمام المهمّة في العراق الذي تحوَّل إلى موقع قدم انزلاقه وإلى ساحة حربٍ طويلة.

كبار المسؤولين الأميركيّين العسكريّين حذَّروا بوتين من مغبّة التسرّع إلى اعتبار «داعش» مُنهزماً ومُنتهياً وأبلغوه أنّ أميركا باقية في سوريا على أيّ حال. ثقوب التفاهمات الأميركيّة – الروسية اتَّسعت نتيجة إصرار موسكو على الاستفراد بفَرض العملية السياسيّة في سوريا بما يُطيح بمبادئ إعلان جنيف الدولية لتحلّ مكانها عملية سوتشي الروسيّة.

إتَّسَعت مع انحسار الاستعداد الاميركي لصفقة أرادَها بوتين على قياس مصالحه وتحالفاته مع إيران ومع النظام في دمشق ناسياً أنّ باراك أوباما غادر البيت الأبيض وأنّ رجال ترامب عسكريّون يفهمون جيّداً لغة المفاوضات والصّفقات عشيّة انتهاء الحروب – أو إطالتها.

ليس هجوم أكثر من 13 طائرة بلا طيّار للقاعدتين الروسيّتين في سوريا، حميميم وطرطوس، ثقباً عميقاً في هيبة الانتصار التي أرادها بوتين هالته فحسب، وإنّما الإدراك أنّ روسيا ستبقى معرَّضة ميدانياً لعمليات عسكريّة سويّة مع حلفائها الميدانيّين في سوريا.

هؤلاء الحلفاء الذين فرَضت الظروف بعضهم على الآخر بدأوا يتناحَرون ويتناثرون. فتركيا وإيران وروسيا – الضّامنون لما يُدعى عمليّة أستانة عبر مناطق «خفض التوتر» – يتناحَرون في شأن إدلب. تركيا غاضبة من استمرار العمليات العسكرية للجيش السوري بدعمٍ إيراني مباشر بغضّ نظرٍ روسي عمّا يحدث. طهران قلقة من الاحتجاجات الإيرانية الشعبيّة التي تشمل الاحتجاج على التورّط والإنفاق الإيراني في سوريا.

الإنتخابات في روسيا تُؤرق بوتين على ضوء المشهد السوري الذي يُهدِّد بنَسف الإنجازات التي أرادَ تقديمها لناخبيه متباهياً. وها هو يَجد نفسه مطوّقاً بنموذج الاحتجاج الإيراني الشعبي على المغامَرات الخارجية المكلفة، ونَموذج جورج دبليو بوش الذي ما زالت الأكثرية الأميركية تلومه على التورّط في حرب العراق، يجِد نفسه وحده الراغب الجدّي بالإنتهاء من الحرب السورية بعجلة وسط تباطؤ من قِبَل إيران والنظام في دمشق من أجل الحَسم العسكري الذي ينشدانه مهما استغرق.

وسط إصرار أميركي على الحضور العسكري والمدني الضّخم في مرحَلتي الاستقرار والإعمار وفي صياغة عمليّة سياسية انتقاليّة في سوريا غير تلك الخاضعة لإملاء روسيا.

وسط ازدياد الكلام الإسرائيلي عن إجراءات تحول دون تحويل سوريا إلى قاعدة إيرانية عسكريّة قبالة اسرائيل. كلّ هذا وغيره من العناصر المتراكمة تجعل القصّة السورية طويلة وتسكب الماء البارد على آمال وتوقّعات انتهائها سريعاً.

سيتَّهم الكرملين واشنطن بأنّها المُحرِّك الرئيسي وراء إبطاء طيّ الصفحة السورية واستمرار الصراع وتمكين المعارضة السورية من إهانة روسيا بطائرات «درونز» تماماً كما فعلت في أفغانستان قبل أربعة عقود عبر توفير المجاهدين ضدّ الاتحاد السوفياتي بصواريخ «ستنغرز» لإسقاط الطائرات.

واشنطن تَنفي التورّط المباشر في الهجمات على القاعدتين الروسيّتين، حميميم وطرطوس، لكنّها لا تُخفي امتعاضَها من «العجرفة» الروسيّة في فرض حلول سياسيّة مرفوضة والتصرّف بأنّها المنتصر الذي يُوزِّع النفوذ والمصالح بتجاهل وتعالي على المصالح الأميركيّة. والكلام هنا يصبّ في خانة الاختلاف على ناحية الوجود والدور الإيراني في سوريا.

الحضور الأميركي ضخمٌ في سوريا قوامه آلاف من القوات العسكرية في 8 قواعد عسكريّة استراتيجية وطائرات تدرَّبت على التحليق عبر «التحالف الدولي» بتنسيق دقيق مع الطائرات الحربية الروسيّة. الثلث الأغنى من الأراضي السورية يقَع تحت السيطرة الأميركية.

هذه أمور لا بدّ أن يعرف الكرملين تفاصيلها. الجديد الذي يُزعج الكرملين هو التحوّل في السياسة الأميركية هذه السنة برَصد أموالٍ للمعارضة الحليفة لها، من جهة. وأكثر ما يُزعج بوتين هو أنّ إدارة ترامب اتَّخذت قرار الانخراط التام في سوريا بعدما كانت إدارة أوباما راضية بترك اليد العليا لروسيا.

على الصعيد السياسي، ظنَّت الديبلوماسية الروسية أنها تملك الضوء الأحمر وهي تستبدل مسار جنيف بفيينا ثم بأستانة ثم بسوتشي – محطّة دفن مبادئ جنيف جثة هامدة. هكذا كان في الإمكان تنفيذ وعود بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة أقلّه الى موعد الإنتخابات عام 2021، وهكذا يُمكن إرضاء ايران المتمسّكة قطعاً ببقاء الأسد في السلطة. فجأة، وجَدت موسكو نفسها مطوّقة بمواقف أميركية مُعرقلة لخططها، فشعَرَت ببالغ الخطر.

ذلك أنّ التسوية السياسية تُشكّل لموسكو مفتاحاً أساسياً لانسحابٍ عسكريّ يحتاجُه بوتين إنتخابياً ولبقاءٍ عسكريّ آمنٍ في القواعد الروسية في سوريا. يحتاجه أيضاً لإعلان الانتصار الجدّي وليس ذلك السابق لأوانه.

إنّما ليست الولايات المتّحدة وحدها التي قد تكون تُعرقل إتمام الانتصار الروسي في سوريا. ذلك أنّ المشاريع الإيرانية تتطلّب الاستمرار في عمليّات عسكرية بالذات في أرياف حلب وإدلب والغوطة الغربيّة ودرعا وغيرها ضماناً للمصالح الإيرانية في سوريا.

لذلك، تستمرّ العمليات العسكرية للجيش النظامي بمساعدات إيرانية. وهذه العمليات تحتاج الوقت الطويل. وبحسب ما قال مسؤول دولي مطَّلع: فيما تُريد روسيا الإسراع إلى إنهاء النزاع، إنّ دمشق وطهران تحتاجان المزيد من الوقت لاستكمال الحَسم العسكري.

تركيا مستاءة وهي طالبت روسيا وإيران بوقف انتهاكات دمشق لتفاهمات «خفض التصعيد» في إدلب، لكنّها بدورها تخرق التفاهمات بنشرها قوات مراقبة هناك. الأجواء متوتّرة بين موسكو وأنقرة لأنّ موسكو تتَّهم أنقرة بتشجيع انتشار «هيئة تحرير الشام». ثمّ أنّ الرئيس رجب طيّب أردوغان خرَج عن صمته حول مصير الأسد وعاد الى المطالبة برحيله. فالأجواء بين الثلاثي الضّامن ليست سارّة.

العلاقات بين موسكو وأطياف المعارضة السورية ليست الهاجس الأوّل لدى واشنطن رغم أنّها عادت لتُولي المعارضة السورية أهميّة ودعماً جدياً عكس ما عاملتها به الإدارة السابقة. الخلاف الأساس هو حول مصير المكاسب الإيرانية الميدانية في سوريا وانعدام الثقة الأميركية بإيحاءاتٍ روسيّة بأن تكون هذه المكاسب متواضعة، وبأن تنسحب المنظّمات والميليشيات التابعة لطهران مع انتهاء الحرب السورية.

مشروع إيران في سوريا هو نقطة الانفصال الاميركي عن روسيا. فإذا ثابرت موسكو في دعم طهران في مشاريعها الإقليميّة الممتدّة عبر سوريا، ستتأزّم العلاقات الثنائيّة الأميركية – الروسية ومعها العلاقات الإقليميّة.

المواقف الإسرائيلية الأخيرة، الرسميّة منها والإعلامية، لافتة على ضوء تقرير عن سلسلة نقاشات استراتيجيّة حول «اليوم التالي» لانتهاء الحرب في سوريا، وتطوّرات ما يُسمّى بـ«الجبهة الشمالية» مع سوريا ولبنان، وفي شأن «جهود إيران لتحويل سوريا إلى قاعدة عسكرية قبالة إسرائيل»، وكيفيّة منع و«لجم هذا التمركز» بحسب تعبير وزير الطاقة عضو الحكومة المصغّرة يوفال شطاينتس. قال إنّ الحكومة ناقشت الأمر بأبعادِه الاستراتيجيّة والتكتيكيّة، وإنّ التحرّك الديبلوماسي جارٍ مع الولايات المتّحدة وروسيا.

 

الجميع يُراقب تطوّر الأحداث الإيرانية الداخلية إنّما العين ساهرة أيضاً على أبعاد وإفرازات المشروع الإيراني في سوريا على العلاقات الإقليمية كما على العلاقة الأميركيّة – الروسية الثنائية.