وطن قائم على الأحقاد، أو بالأحرى صار قائماً على الأحقاد.
إذ نادراً ما يتكلّم أحد السياسيين (والمسؤولين أيضاً) من دون أن يكون الحقد أساساً لكلامه. فلا يتناول أحدّ من القوم أي مسألة أو موضوع أو قضية إلاّ بذهنية توجيه التهم إلى الغير.
والأنكى من هذا كله أن البعض ممن «يعتاش» على هذه «المهنة» (مهنة اتهام آخر) يلبس مسوح الزاهدين والأتقياء والأولياء والقديسين، فيما يكون غارقاً في الفساد حتى أذنيه.
فكيف يمكن لهذا الوطن، الغارق في الأزمات و»الدايخ» بين العواصف الإقليمية والدولية، والمعرض للهزات العديدة الخطرة بما فيها الهزة الاقتصادية والمالية الخطرة، والموضوع في عين الرقابة الدولية… كيف له أن ينهض من عثراته فيما القوم منصرفون الى الغرف من مستنقع الأحقاد والضغائن النتن؟!
نحن نطالب بمكافحة الفساد حتى النهاية، ولكننا لا نؤمن بأنّ هذه الحملات المتبادلة (والمتقاطعة عند التهم بالفساد) ستوصل الى نتيجة اللهم سوى توسيع الشرخ.
غريب أمر هذا الجيل الهجين من السياسيين أو من المعتدين على السياسة.. لماذا يقضون أيامهم والليالي ينعقون فيما بإمكانهم أن يكونوا فاعلين أكثر لو اعتمدوا الأسلوب الأسهل الذي هو، ببساطة، حمل ملفاتهم، التي يزعمون أنها موثقة، ويتوجهون بها الى القضاء الذي هو وحده من يقرر ما إذا كان هذا الشخص فاسداً أو لم يكن!
إنها الطريقة الأجدى والأكثر فاعلية… وهي الى ذلك الطريق الوحيد الذي من شأنه أن يصدر القرارات والأحكام.
أمّا أن تنطق الأبواق عبر التصريحات والمؤتمرات الصحافية فليس أكثر من رفع العتب والبروباغندا السخيفة، ولن يكون له أي مفعول سوى عند «الزقّيفة» الذين يتم «شراؤهم» بأبخس الأثمان.
لقد كان في هذا البلد موالاة ومعارضة ولكن لم يكن فيه هذا القدر الرهيب من الضغينة والحقد والكراهية… ما ينم عن نفسيات مريضة لا تحسن سوى أن تفجّر أحقادها، فتزيد من التوتر والاحتقان وحسب! وكان أهل الموالاة والمعارضة يختلفون على أمور عديدة. وهذا من طبيعة النظام الديموقراطي. وكان كل فريق منهما يقنع بما يعطيه إياه الناخبون في صناديق الاقتراع. وكان المعارض يفنّد أخطاء أهل الحكم ويعدّد المآخذ عليهم ثمّ ينهي كلامه متمنياً للسلطة أن توفق في خدمة البلاد والعباد.
وكانت الأحوال بخير وكان البلد في ازدهار. وكان لبنان البلد العربي الوحيد «المقبول» بإحترام من سائر الدول العربية. بل كان يتولى المهام التوفيقية بين هذه العاصمة وتلك، وبين هذه المجموعة وتلك. وأدى ذلك الى ازدهار كبير وبحبوحة بين اللبنانيين، وأمان واطمئنان…
وكان المختلفون في السياسة متفقين في الوطن على كلّ ما يتعلق بالشأن الوطني العام، وعلى كلّ ما يحقق المصلحة الوطنية العليا. أمّا اليوم فلسنا (جيلنا نحن الذي عرف لبنان «الحقيقي») نستسيغ هذه الخلافات الحادّة وهذا الارتهان للخارج… ولأن المرتهنين كثر، لذلك نرى ما نرى ونسمع ما نسمع.
وأمّا الكلام على الفساد فموقعه (الفعّال) واحد لا بديل له: القضاء! ومن عنده ما يتجاوز «البروباغندا» فليذهب الى القضاء ولا ينتظر أن يستدعيه القضاء. وإلا كان كلامه باطلاً.