لم تقتصر مفاعيل قيام حزب الله في عام 1982، على إضافة حزب سياسي جديد في الساحة اللبنانية، بل شكّل محطة مفصلية في تاريخ لبنان والمنطقة. منذ تأسيسه، تميز حزب الله بخياراته الاستراتيجية الحاسمة، وتحديداً في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وإفرازاته السياسية في ذلك الحين.
أظهر حزب الله من البداية تصميماً وحسماً، انعكس بشكل مبكر، في طبيعة العمليات التي نفذها وحجمها وأساليبها. ومن أبرز ما تميز منها منذ ما بعد الاحتلال الإسرائيلي، العمليتان الاستشهاديتان ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية: الأولى نفذها الاستشهادي أحمد قصير، في 11/11/1982، وأدت الى تدمير مقر الحاكم العسكري في صور، والثانية في 4/11/1983، وأدت أيضاً الى تدمير مقر الحاكم العسكري البديل في مدرسة الشجرة في صور.
في المقابل، أدركت إسرائيل في مراحل معينة خطورة المجموعات التي كان يدربها حرس الثورة الإسلامية (الإيراني)، فبدأت بشن غاراتها الجوية ضد مواقعه ومراكزه في البقاع، منذ شهر تشرين الثاني عام 1983. أدى ذلك في حينه الى سقوط عدد من الشهداء، من بينهم عدد من عناصر حرس الثورة الإيرانية، الذين قدموا إلى سوريا ولبنان لأغراض المساندة والتدريب لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي. كانت تلك الغارات، بحسب مجلة سلاح الجو الإسرائيلي، فاتحة الغارات الإسرائيلية بعد اجتياح عام 1982.
واصلت إسرائيل استهدافها لحزب الله في كل المحطات التي تلت، فاغتالت من قادته وكوادره ومقاوميه، وبأساليب متعددة. لكنها في كل محطة، كانت تكتشف أن محاولاتها كانت تبوء بالفشل، ويخرج حزب الله منها أكثر قوة وتصميماً. مع توالي المراحل وتعاقبها، كان يتعاظم إدراك تل أبيب حجم الدور الذي يؤديه حزب الله في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. ويحضر في هذا السياق تحذير رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين في تسعينايت القرن الماضي، من أن عدم نجاح التسوية يعني الحصول على نموذج حزب الله في الداخل الفلسطيني، وأن إسرائيل نجحت في ضرب منظمة التحرير الفلسطينية، لكنها حصلت في المقابل على حزب الله.
في مرحلة ما بعد التحرير، عام 2000، تحول حزب الله إلى قوة إقليمية، تعاظمت مع السنوات، إلا أن تعاظمها، ما بعد حرب عام 2006، نما إلى حد أن بناء القوة والقدرة والإرادة على استخدامها تكاد تصل إلى مستويات تدفع بإسرائيل في مناحٍ عسكرية وتبعاً لها سياسية، إلى الانكفاء نحو التموضع الدفاعي، ما يشير إلى حجم التعاظم المقابل لها من قبل حزب الله، وكذلك حجم ارتداعها هي ومستوياته، الأمر الذي رفع شأن لبنان ومنعته في مواجهة أطماع إسرائيل وفرض إرادتها السياسية عليه.
خلال مسيرة حزب الله في مواجهة الاحتلال، استخدمت إسرائيل كل قدراتها وقدرات غيرها أيضاً، للحد من قدرة حزب الله على مواجهتها وإفشال أطماعها، مع كثير من الآمال على هذه الخيارات، ومن بينها محاولات إنهاء وجوده أيضاً. فكانت الحروب والمواجهات والعمليات الخاصة، وكان الضغط الاقتصادي والسياسي والدفع إلى الاحتراب الداخلي، وكذلك محاولة إغراء الجانب السوري لإيقاف دعم دمشق له، إن منها أو عبرها. وفي سياق تفعيل هذه الخيارات، عمدت إسرائيل إلى تنشيط سياسة الاغتيال في أكثر من محطة ضد قادة حزب الله وكوادره.
وبعيداً عن الخوض في الردود المقابلة لعمليات الاغتيال وحجمها ومستواها وأماكنها، إلا أن الثابت في سياق مسيرة ونتائج وتعظيم قدرة حزب الله العسكريةــــ بوصفه مقاومة هي جوهر صفاته المراد ضربها من خلال الاغتيالات ــــ هو أن مخطط العدو ورهاناته عليها، فشلت بلا جدال.
عجزت سياسة الاغتيالات عن تحقيق المؤمل منها، وإن كانت تداعياتها مؤلمة على المقاومة. إذ إن تجاوز حزب الله آلامه، والقفز سريعاً إلى تأسيسات ومبانٍ أخرى بعد الخسارة المادية إثر الاغتيالات، يعدّ في حدّ ذاته أهم من الردود المباشرة التي حصلت، مهما كانت مؤلمة للعدو ومهما كانت خسائره جسيمة جراءها. نعم، بإمكان هذه الردود لجم إسرائيل ودفعها إلى الانكفاء وردعها عن مواصلة هذه السياسات، بصرف النظر عن الفترة التي يدوم معها هذا الردع لارتباطه أيضاً بعوامل أخرى قابلة للتغير مع مرور الوقت، لكن ما يتعلق بالمعادلات نفسها، أي منع بناء القوة وترجيع حزب الله الى الخلف، فقد مُني هذا الهدف بالفشل الذريع.
في ذلك، وضمن هذه المقاربة التي تتسم بالمعطيات المادية ومعادلات بناء القوة والاقتدار، سلاح الاغتيالات هو جزء لا يتجزأ من الحرب التي يلجأ إليها العدو، في ظل انكفائه القسري عن الخيارات الابتدائية التي طالما فضّل اللجوء إليها ضد لبنان لغرض إخضاعه، وهي الخيارات العسكرية المباشرة، وخاصة أن الساحة اللبنانية هي التي كانت تتسم بالضعف وصفر قدرات قياساً بساحات مواجهة أخرى كانت ناشطة في وجه العدو.
الساحة الأكثر ضعفاً تحوّلت إلى الساحة الأكثر تهديداً لإسرائيل مع قواعد اشتباك صارمة تكبّل العدو
انكفاء هذه المقاربة تجاه الساحة اللبنانية ضمن قواعد اشتباك صارمة بات العدو معنياً بمنع تداعيات خرقها أكثر من الجانب اللبناني، هي نتيجة من نتائج إخفاقاته في تحقيق أهداف خياراته التي لجأ إليها، ومن صمنها الاغتيالات. كل ذلك رغم أنه يشخّص مصلحته في تغيير هذه القواعد و«تليينها» بحيث تسمح له بمعاودة الاعتداء وفرض السياسات والاغتيالات، وهو ما يجري تلمّسه في الفترة الأخيرة وإن لم تتقدم هذه الأفكار إلى مستوى التبلور الفعلي والتنفيذ الميداني.
في هذا السياق، يفترض النظر الى النتائج كما جرى التخطيط لها لدى العدو، مقابل النتائج التي تحققت فعلياً. هذا مع التأكيد أن عدداً من الاغتيالات الإسرائيلية جاء أيضاً على خلفية الانتقام ضد هذا القائد أو ذاك، بعدما تسببت أفعاله وعملياته وأيضاً مواقفه (الشيخ راغب حرب) بتداعيات على مستويات استراتيجية في إفشال المخططات الإسرائيلية للساحة اللبنانية وما وراءها أيضاً، ما دفع بإسرائيل إلى تموضعات مغايرة عما أرادته وعملت عليه، في العقود الأخيرة.
في ذكرى القادة الشهداء في عام 2019، أي بعد عقود من مواجهة الاحتلال، والنجاحات التي تحققت، رغم الأثمان المدفوعة لتحقيق ذلك، تبدو المعادلات مختلفة، وليست فقط متباينة عن معادلات الماضي، فالساحة الأكثر ضعفاً وأكثر ليناً واستكانة في وجه العدو تحوّلت إلى الساحة الأكثر تهديداً لإسرائيل مع قواعد اشتباك صارمة تكبّل أفعال العدو واعتداءاته.
ما عمل عليه القادة الشهداء، وعموم الشهداء، بات واقعاً ملموساً لا جدال فيه، إلا على خلفية المكابرة. وهذا هو محل الفشل الإسرائيلي، الذي يأتي بطعم الانكسار، قياساً بما لديه من إمكانات وفرص ودعم غير محدود.