سياسة المحاور في الشرق الأوسط لا محور لها اليوم يربطها بأي من المسائل الكبرى التي شغلت العالم العربي منذ نحو قرن. في زمن الحرب الباردة، طغت سياسة المحاور الدولية على المحاور الإقليمية في العالم. دخل الشرق الأوسط باكراً في التجاذبات الثنائية بعد الحرب العالمية الثانية، بدءاً باليونان في الأربعينيات وإيران في مطلع الخمسينيات، وصولاً الى العالم العربي حيث شكل «حلف بغداد» امتداداً لسياسة الاحتواء التي أطلقها الرئيس الأميركي ترومان في 1947. ساهم حلف بغداد في 1955 في تعميق الهوة بين طرفي الاصطفاف العربي، إلا أنه كان عملياً بلا جدوى مع اندلاع حرب السويس بعد عام على قيامه.
انتقال المحاور الدولية الى العالم العربي تقاطَعَ مع المدّ الناصري الواسع، وجاءت الوحدة بين مصر وسوريا في 1958 تتويجاً لهذا المسار في مواجهة المحور العربي المتحالف مع الغرب الذي تراجع نفوذه بعد إطاحة النظام الملكي الهاشمي في العراق. كما أن موازين القوى الدولية مالت في الخمسينيات لصالح الاتحاد السوفياتي في عدد من دول العالم الثالث، وتجسّد ذلك مع نشوء «حركة عدم الانحياز»، الداعية الى «الحياد الإيجابي» والمنحازة الى موسكو. وسرعان ما برزت محاور جديدة داخل الصف العربي الواحد، بين عبد الناصر وحزب البعث، بعد سقوط دولة الوحدة في 1961، ولاحقاً داخل حزب البعث الذي انقسم بعد وصوله الى السلطة في العراق وسوريا في 1963.
حرب 1967 أعادت الأوضاع الى نصابها، فكانت الهزيمة دافعاً لجمع المحاور العربية المتشابكة. تصالحت مصر مع السعودية في مؤتمر اللاءات الثلاث في الخرطوم وانتهت حرب اليمن، وتم إطلاق الكفاح المسلح لتحرير فلسطين. محاور ما بعد 1967 انطلقت عسكرياً في الأردن وحطّت رحالها في لبنان وبدأت تتصدّع في حروب لبنان الداخلية والإقليمية، الى أن اجتاحت إسرائيل لبنان والمنظمات الفلسطينية في 1982 وباتت المحاور القائمة بلا جدوى.
مع الثورة الإسلامية في إيران والحرب العراقية – الإيرانية والاجتياح العراقي للكويت وحرب تحرير الكويت انتلقت المحاور من دول المشرق الى الخليج. وتزامن هذا التحول مع انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي وعودة مصر الى الساحة العربية بعد إبعاد قسري دام نحو عقد منذ اتفاقية «كمب ديفيد». ومع حرب العراق في 2003 وتداعياتها، استفاقت المحاور المذهبية «النائمة»، وجاءت حرب سوريا منذ 2011 لتُطلق المحاور السلفية المسلحة. في المقابل، سقطت المحاور الدولية بعد الحرب الباردة وباتت الولايات المتحدة قوة عظمى بلا منازع وشنّت الحرب في أفغانستان بعد اعتداءات 11 أيلول، تبعتها حرب العراق. محور نزاع آخر طُويت صفحته أخيراً بين إيران والدول الكبرى بعد أكثر من ثلاثة عقود من القطيعة الكاملة بين واشنطن وطهران.
لم يبق في الميدان سوى محاور بلا قضية مركزية جامعة. فمن مصر والمشرق العربي الى الخليج، ومن ثم الى المشرق حيث الحروب مشتعلة، برزت محاور جديدة من المحيط الإقليمي غير العربي، من إيران وتركيا. دخلت إيران العالم العربي من خارج سياق المحاور التقليدية، فكانت الثورة الإسلامية بوجه «الشرق» و»الغرب». تركيا أردوغان جاءت متأخرة عبر رعايتها بداية التفاوض غير المباشر بين سوريا وإسرائيل وانخراطها لاحقاً في حروب سوريا والعراق. وفي سوريا جاء التدخل الروسي العسكري محوراً إضافياً، ووقع الصدام بين موسكو وأنقرة.
تحاول السعودية استعادة المبادرة في سوريا بعد «عاصفة الحزم» وعاصفة أخرى لا تقلّ حزماً أرادها الرئيس الأميركي باراك أوباما مصالحة تاريخية مع إيران. تحاول الرياض أن تدخل ساحات القتال في ظل نظام إقليمي عربي معطّل والعراق وسوريا ساحة مفتوحة لحروب مدمرة. مصر في قطيعة مع تركيا، والسعودية متحالفة مع تركيا بهدف إعادة عقارب الساعة السورية الى الوراء. إنه المحور السعودي – التركي في مواجهة محور إيران- روسيا. ولكل طرف في كل من المحورين غايات متضاربة في الصراع المحتدم. لا ترى أنقرة في سوريا والعراق سوى الخطر الكردي، ولا ترى الرياض سوى الخطر الإيراني. أما موسكو فاستعادة الدور والنفوذ في طليعة اعتبارات المواجهة. ودول التحالف الأخرى لا تجمعها سوى المصيبة الداعشية التي وصلت الى أوروبا.
في صراع المحاور الجديد تغيب إسرائيل العدو أو فلسطين القضية، ومعها العروبة التي اتخذت اليوم مضامين جديدة. فبدل الوحدة العربية لمواجهة إسرائيل، وحدة عربية لمواجهة إيران، فالعروبة في مفهومها المستجد تعني التصدي للفارسية. وبدل الامبراطورية العثمانية التي انتفض العرب على سياسة التتريك التي فرضتها في سنواتها الأخيرة، تركيا الأردوغانية وطموحاتها الإقليمية التي لم تكتمل بعد. مَحاور بالجملة، لا أفق لها ولا قضية في نزاع لم يعد للعرب فيه سوى «عوادم» التطرف والعنف دفاعاً عن أوهام ولّى زمنها وأحلام تحرّكها الغرائز والخيبات.