IMLebanon

سياسة «تجفيف السيولة» لا تكبح الطلب على الدولار

 

 

قفزت فائدة الاقتراض بالليرة من يوم ليوم بين المصارف إلى 55% أمس. هذا الارتفاع هو مؤشر على وجود طلب على الدولار، إلا أنه بشكل جذري ناجم عن سياسة تجفيف السيولة التي ينفذها مصرف لبنان لشراء المزيد من الوقت بكلفة باهظة

 

قبل نحو ثلاثة أسابيع بدأت أسعار فائدة الانتربنك، أي فائدة الاقتراض بالليرة من يوم ليوم بين المصارف، تسجّل ارتفاعات متتالية وصلت إلى أقصاها أمس وبلغت 55%. هذا المستوى هو أعلى معدّل مسجّل منذ أزمة احتجاز رئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية في تشرين الثاني من العام الماضي حين ارتفع سعر الانتربنك إلى 110% ثم انحسر بعد أسابيع من الضغط إلى 5%.

وبحسب المعطيات المتداولة بين المصرفيين، فإن التفسير الوحيد لهذا الارتفاع يكمن في الاختناقات التي يعاني منها السوق بسبب عمليات إدارة السيولة التي ينفذها مصرف لبنان. هذه الاختناقات تتمثّل في نقص السيولة بالليرة وبالدولار في الوقت نفسه. فمن جهة يعاني القطاع المالي، أي المصارف والمؤسسات المالية والصرافين، من نقص السيولة الكافية بالليرة اللبنانية لشراء الدولارات من مصرف لبنان وتغطية طلبات الزبائن، سواء كانوا زبائن ممن لديهم ودائع مجمّدة بالليرة يريدون تحويلها إلى الدولار خوفاً من حصول تطورات دراماتيكية تتعلق بسعر الصرف، أو زبائن تجاريين يريدون فتح اعتمادات بالدولار لاستيراد سلع استهلاكية. ومن جهة ثانية، كان مصرف لبنان قد أوعز إلى المصارف، أنه سيخفّف من تدخّله في السوق وعرض الدولارات للبيع ما أدّى إلى نقص في السيولة بالدولار.

في النتيجة، فإن واحدة من أبرز الأدوات التي تستعملها المصارف لتغطية نقص السيولة، أي أن تقترض من مصارف لديها سيولة لمدة قصيرة جداً قد تكون يوماً واحداً أو يومين أو حتى أسبوعاً من أجل شراء الدولارات من مصرف لبنان. المقترضون يدفعون فائدة تسمى «انتربنك». كان معدّل هذه الفائدة قبل أزمة احتجاز رئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية في تشرين الثاني 2017 3%، إلا أنها ارتفعت بسبب تلك الأزمة إلى 110% وظلت مرتفعة عند مستوى 35% في كانون الأول الماضي قبل أن تعود إلى 4% في كانون الثاني 2018، وبقيت عند هذا المستوى حتى أيار 2018 حين بلغت 5% وارتفعت في مطلع تشرين الثاني إلى 10% ثم إلى 20% وصولاً إلى 30%. أمس قفزت هذه الفائدة إلى 55%، وهو أعلى معدل مسجّل منذ تشرين الثاني الماضي.

لماذا وقعت المصارف تحت ضغط عمليات التحويل من الليرة إلى الدولار؟ السبب أنه منذ تشرين الثاني الماضي، أوقف مصرف لبنان كل المهل التي كانت معطاة للمصارف لتمويل عمليات تحويل العملة، وبات يترتب عليها أن تدفع المبالغ لشراء الدولارات فوراً، وبالتالي لم يعد لديها المرونة الكافية للقيام بمناورات تأمين السيولة اللازمة لشراء الدولارات، وصارت خاضعة لأمرين: إصرار المودعين على تحويل ودائعهم بسرعة نظراً لقلقهم أو خوفهم من المجهول المتصل بإمكان اندلاع أزمة مالية في لبنان. الأمر الثاني أنه بات على المصارف تنظيم استحقاقات الودائع المجمّدة بشكل يتناسب مع فترات استحقاق توظيفاتها في شهادات الإيداع وسندات الخزينة. عدم تلاؤم الاستحقاقات بين الودائع والتوظيفات، يخلق هوّة في إدارة السيولة لدى المصارف لا يمكن ردمها إلا من خلال الاقتراض من يوم ليوم.

كان يفترض أن تتقلص هذه الهوّة بعدما شجّع مصرف لبنان، المصارف، على إغراء الزبائن بالفوائد المرتفعة من أجل تمديد آجال ودائعهم المجمّدة، إذ تقول مصادر في مصرف لبنان إن معدل آجال الودائع ارتفع من 30 يوماً إلى أكثر من 5 أشهر، وأن هناك قسماً من الودائع يصل معّدله إلى أكثر من 13 شهراً.

غير أنه في الواقع، تُظهر هذه الاختناقات، أن كمية المبالغ بالليرة التي تستحق على المدى القصير ولمدّة لا تفوق شهرين، بإمكانها أن تشكّل كتلة ضاغطة على سياسة إدارة السيولة التي ينفذها مصرف لبنان، وتزيد الطلب على الدولار، لا بل إن هذه الكتلة المالية ترفض إطالة أجَل تجميد الوديعة، وتحتفظ بخيار تحويلها إلى الليرة كلما شعرت بخوف أكبر، ما يعني أن إدارة السيولة التي يقوم بها مصرف لبنان وكل الإغراءات التي تمنحها المصارف لا تترك أثرها على جميع الزبائن.

في الواقع، إن السؤال الذي يطرح نفسه لا يتعلق بوجود طلب على الدولار، بل يكمن في فاعلية إدارة السيولة. فمصرف لبنان عمد منذ سنتين إلى القيام بعمليات مالية مع المصارف بعنوان «هندسات مالية» هدفت إلى جذب الدولارات من الخارج. إلا أن هذه العمليات خلقت سيولة هائلة بالليرة اضطر مصرف لبنان أن يمتصّها بسرعة حتى يخفّف من أثرها التضخمي وحتى لا تشكّل ضغطاً على سعر صرف الليرة مقابل الدولار، لأن الليرات التي تموّل الاستهلاك المستورد المدفوع ثمنه بالدولار، هي عبارة عن طلب غير مباشر على الدولار. هذه الهندسات نجحت في شراء وقت بسيط بكلفة باهظة جداً (المصارف صرّحت عن أرباح استثنائية من الهندسات في 2016 بقيمة 5.5 مليار دولار)، إلا أن المشكلة لم تُحلّ بل ازدادت سوءاً في الأشهر اللاحقة بسبب الحاجة المتواصلة لجذب الدولارات من الخارج في ظل استمرار عجز ميزان المدفوعات الذي يمثّل صافي عمليات دخول الأموال إلى لبنان وخروجها منه. لمعالجة هذا الأمر لجأ مصرف لبنان إلى رفع أسعار الفائدة على الليرة وإبقاء هامش كبير بينها وبين الفائدة على الدولار…

 

يعاني القطاع المالي من نقص السيولة بالليرة لشراء الدولارات من مصرف لبنان

 

فاتورة امتصاص السيولة باتت هائلة. إلا أن المشكلة أن الطلب على الدولار لم يتوقف، فيما التضخّم بدأ يسجّل مستويات مرتفعة. اليوم بدأت المصارف بتنفيذ عمليات ضبط للتحويل من الليرة إلى الدولار بحجّة أن مصرف لبنان لا يبيعها الدولارات اللازمة، وبدأ الزبائن من المودعين والتجار يلمسون نتائج هذا الأمر ومن أخطرها أن السعر السوقي لصرف الليرة مقابل الدولار بات بيد الصرافين الذين يبيعون الدولار بـ1518 ليرة ويشترونه بـ 1515 ليرة.

هذا ما يحصل في السوق كنتيجة مباشرة لعمليات تجفيف السيولة التي يقوم بها مصرف لبنان. الزبائن يتذمّرون من عدم قيام المصارف بعمليات التحويل إلى الليرة، والمصارف تتردّد كثيراً في الاقتراض من مصارف أخرى لتمويل عمليات التحويل للزبائن، ومصرف لبنان ينفّذ سياسات مكلفة ولا تهدف إلا لشراء المزيد من الوقت. سعر فائدة الانتربنك ليس إلا مؤشّراً على واحدة من الاختناقات المالية التي تشهدها السوق في ظل سياسة تجفيف السيولة، فالركود الاقتصادي الناجم عن ارتفاع أسعار الفائدة عموماً سيكون مكلفاً جداً على الاقتصاد، لا سيما القطاعات المنتجة وقتل فرص العمل بدلاً من خلقها، وكبح التضخّم قد لا يكون فاعلاً بنسبة كبيرة، أما الهدف الرامي إلى «خنق» الاستيراد للتخفيف من خروج الدولارات فقد يكون مردوده أقل بكثير من كلفته.