السؤال الذي يعصف بأذهان مختلف الأوساط في البلد: ماذا يجري؟ على صعيد تداعيات أزمة فقدان أو الشحّ في تداول الدولار في السوق اللبناني؟ سواء على صعيد أزمة المحروقات، التي تشتعل ثم تنطفئ أو أزمة الطحين التي تختبر أول ايامها اليوم مع إضراب أصحاب المخابز والأفران، وسائر المعنيين بالقمح وانتاجاته المعجونة وغير المعجونة من المعكرونة والشعيرية، امتداداً إلى أزمات مشتقة من تسعيرة الدواء، وادوية العلاجات المستعصية، وما يرتبط بها على هذا النحو أو ذاك!
تتوالد الأسئلة بطريقة ترابطية أو عفوية، وتذهب التقديرات باتجاهات تخدم هذه الوجهة السياسية أو تلك، مع النقاش الصعب حول أرقام موازنة العام 2020، والاصلاحات التي يتعين أن تدخل في صلب مواد الموازنة، التي يفترض ان تخرج إلى النور في بحر هذا الأسبوع، انسجاماً مع الرغبة في أن يُنجزها مجلس الوزراء ضمن المهلة الدستورية، لتحال إلى المجلس النيابي، وتخرج منه مقرّة بمادة وحيدة أو مادة مادة، قبل اجتماع 15 ت2 للجنة الاستراتيجية الخاصة بإطلاق العمل بمقررات مؤتمر سيدر..
في ماذا يجري، يعتقد أركان التيار الوطني الحر أن المجريات توحي بأن وراء الأكمة ما وراءها.. فحركة الشارع ليست بريئة، وارتفاع أسعار المحروقات أو الامتناع عن تزويد السوق بها ليس بريئاً، فضلاً عن ارتفاع أسعار صرف الدولار لدى الصرافين… إلخ.
في اعراف «التياريين» الملتفين حول شرعية جبران باسيل (رئيس التيار) أن ما يجري يستهدف رئيس الجمهورية، الذي رفع شعار «العهد القوي».. والتيار الوطني الحر الذي رفع شعارات، بعضها «طنان»، والآخر «رنان»، كالاصلاح والتغيير ومحاربة الفساد..
في لقاء التنسيق والتفاهم على مواجهة «الحصار الأميركي المفروض على لبنان»، وخارج إطار التشخيص والاستهداف، المعروف من التيار الوطني الحر وحزب الله، اتفاق الأمين العام للحزب السيّد حسن نصر الله مع الوزير الحالي، رئيس التيار جبران باسيل على مواجهة ارتفاع الدولار (الاستقرار الاقتصادي)، إجراءات ضبط الوضع الاقتصادي (توفير السلع، وبالاسعار المعمول بها حالياً)، زيادة موارد الدولة (كيف، لا أحد يعلم) إصدار الموازنة مع الإصلاحات (هل تطيح الموازنة بكامل القوانين) من خلال القوانين البرامج، مثلاً؟ إلى آخر ما تتضمنه الادبيات من الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الإنتاجي وتخفيض عجز ميزان المدفوعات ومعالجة أزمة النازحين..
المسألة، في ما خص «الاهتزاز اللبناني» الذي يعيش بداياته، بدءاً من اللحظة التي بدأت فيها تصفية «بنك جمال» استجابة للعقوبات التي فرضتها الإدارة الأميركية على حزب الله، والمؤسسات المرتبطة به..
لا تبحث الأطراف السياسية بعمق عن أسبابه، ورهاناته، والاحتمالات المفتوحة، التي يمكن ان يبلغها، ضمن الوضعية الراهنة لاقتصاد لبنان، وموقعه السياسي، وطبيعة الحصار المفروض على دول المحور، بدءاً من إيران وصولاً إلى العراق، فسوريا، ولبنان، نظراً للموقع المؤثر لحزب الله في صناعة السياسات الإقليمية والدولية، التي ينتهجها البلد..
من الثابت، ان في لبنان أزمة بنيوية، تتعلق بطبيعة الموارد اللبنانية التي تغذي الخزينة، فضلاً عن طبيعة القوى السياسية أو الطبقة السياسية التي تدير دفة الاقتصاد والادارة والمال والعلاقات الخارجية، والموضوعة تحت «علامة استفهام كبرى»: العجز!
قد تكون الأزمة مزمنة، ترتقي إلى سنوات عجاف مضت، على ان الأخطر فيها ان قوى الطائف، والمعارضين للطائف، والذين يحكمون باسم الطائف اليوم، تكاد سياساتهم تأخذ البلد، القابع تحت ضغوطات بالغة التعقيد، إلى المجهول!
المسألة الخطيرة اليوم ان أسباب الأزمة ليست بيد اللبنانيين كلهم، وإن بدت المعالجة تخضع إلى فهم يتعدى الرغبات والتمنيات. فحجب أموال اللبنانيين وتحويلاتهم إلى لبنان، مسألة لا صلة مباشرة للبنانيين بها، إنها قضية قرار مالي أميركي يتحكم بالعالم منذ العام 1944، واتفاقية بريتون وودز التي جعلت الدولار العملة التي تتحكم بسائر عملات الكرة الأرضية بعوالمها الثلاثة: الرأسمالي، والاشتراكي حينذاك والعالم الثالث، الذي يتوزع بين نامٍ ورأسمالي ليبرالي ملحق، وتحدري اشتراكي مثل دول باندونغ 1955..
في السياسة، تتحكم الولايات المتحدة، وربما روسيا (تأثير بسيط) بما يجري في الشرق الأوسط، فمثلاً تكشف المفاوضات ان استخدام لبنان لمعبر «البوكمال» بين سوريا والعراق، بدل معبر نصيب يحتاج إلى موافقة أميركية! حتى أن معالجة مسألة النزوح السوري تحتاج أيضاً إلى موافقة أميركية، والا لما قال الرئيس ميشال عون في نيويورك مخاطباً دول العالم: عالجوا مسألة النزوح في لبنان، (وإلا سنضطر إلى فتح مفاوضات مباشرة مع النظام السوري، الذي ما تزال الولايات المتحدة ودول أوروبية تفرض عليه الحصار، ولا تعترف به..!).
في بلد يكاد النمو فيه لا يتجاوز الصفر، وفي بلد يعتبر الثالث عالمياً من حيث حجم المديونية، وتتكالب على «صيغته الاقتصادية» مجموعة نهمة لا تشبع، لتأكل الأخضر واليابس (مثل الجراد)، يجري البحث عن أسباب الأزمة، وكأن الأسباب مجهولة.. وهل يمكن لاقتصاد خدمات أو يعتاش على تدفق الرساميل من الخارج ان يصمد امام الاعاصير الحربية والمالية والدبلوماسية الوافدة من الخارج؟ في تاريخ البلد الإجابة.. لدرجة ان وكالة «بلومبيرغ» تحدثت عن «شح حقيقي» في الدولار، وكشفت ان السيولة بخطر، معتبرة ان جلّ ما يفعله القيّمون على البلد هو شراء الوقت ليس إلاّ..
الوكالة الدولية، تعتبر ان وضع احتياطي لبنان، الممكن استخدامه، ليس على ما يرام.. فوكالة «ستاندرد اند بورز»، توقعت انخفاض الاحتياطي إلى 19.2 مليار دولار بحلول نهاية العام 2019، بعدما قدر بـ25.5 مليار دولار العام الماضي، مشيرة إلى ان تسارع وتيرة السحب من الاحتياطي واستمرار انخفاض تدفقات ودائع العملاء، استدعى الالتفات إلى مكامن خطر على «قدرة البلاد على الحفاظ على ربط العملة الوطنية بالدولار».
انها مواجهة بين وزارة المال ومصرف لبنان، اوصلت البلد إلى خطة «الوصول إلى أسواق الرساميل العالمية»، أو جعلت هذا الوصول محدوداً!
من يموّل الدولة وزارة المال أم مصرف لبنان؟
انها لعبة عض أصابع بين مؤسسات النقد والمال، في وقت تشهد عملية البحث عن موارد أو تخفيض آلية الانفاق في الموازنة «عض اصابع» سياسي، ومن نوع آخر، يتعلق بمن يتحكم بمصائر السياسة بعد التحكم بمسائل المال، بعيداً عن تحمل المسؤولية عمّا يجري، وفي حال آلت الأمور إلى انهيار حقيقي، كثمن سياسي، في إطار تصفية الحسابات الكبرى!