Site icon IMLebanon

المارونيّةُ السياسيّةُ وجهُ لبنانَ الجميل

 

ملف – مارون… والـ”مار مارونية” السياسية

شئنا، ونحن في سنة “مئوية الإستقلال”، وفي عيد شفيع الطائفة المارونية، الذي، تقليداً، صار يوماً إحتفالياً ومناسبة وطنية جامعة، أن نشرّع صفحاتنا، أمام أقلام، نقدّر ما تختزنه من إيمان بالكيان ومن معرفة تاريخية وفكرٍ نقدي.

شئنا، أن يكون ملفنا هذا، عن “المارونية السياسية”، معبّراً عن البعد الوطني ـ الإستقلالي كما عن العمق الروحي والإنساني.

 

شئنا عشية عيد القديس مارون أن نخصص في “نداء الوطن”، مساحة تفكير وتأمل بما كنا وما صرنا عليه.

 

عدا الصِراعِ الشيعيّ/السُنِّي الدائِر في الشّرقِ الأَوسَط حَول تَرِكَةِ الخِلافةِ الإسلاميّة، بَرز في لبنان تنافُسٌ شِيعيّ/ سُنيّ حولَ تَرِكَةِ المارونيّةِ السياسيّةِ في لبنان. أَطرافٌ كُثرٌ يَظنّون أَنّ المارونيّةَ هي “الطائِفةُ المَريضة” على غِرارِ ما كانت عليه السَلْطَنةُ العُثمانيّةُ في نِهايَةِ القَرنِ التاسعِ عَشَر، ويَعتقِدون ـــ بِشكْلٍ مُبالَغٍ فيه ـــ أَنَّ عَديدَ الموارِنَةِ يَتقلّصُ يوماً بعد يَومٍ، وأنَّ ساعَةَ اقتِسامِ إِرثِهم في الدولةِ اللبنانيّةِ دَنَت. لكنَّ الجميعَ تناسى أنَّ القوّةَ السياسيّةَ المارونيّةَ لم تَرتكز يوماً على العدد، وتناسوا أيضاً أنها قوّةٌ ذاتيّةٌ خلافَ أطرافٍ أخرى تَستمِدُّ قوّتَها وقُوتَها من ولاء للمحاورِ الخارجية، وأن المجتمعَ المارونيُّ مجتمعٌ مقاومٌ من أجل الوطن والحياة.

 

محاولةُ إزاحةِ المارونيّةِ السياسيّةِ، المَشْرُوعةُ في مَنطِق الصِراعِ على السُلطَةِ، عَرَفَ مِثلَها تاريخُ لبنان، لكِنَّ عواقِبَها كانت دَمَويّةً وتَقسيميّةً واحتِلالاً أَجنَبيّاً، ولا داعي لتكرارهِا. ما شَجّعَ بعضَ المكوّنات الإسلاميّةِ على تلك المحاولةِ، تَصرّفاتُ المَوارِنَةِ ــ شَعباً وقادَةً ـــ مُنذ نَحو أربعين عاماً (1983/2020): الشعبُ الماروني انزلق بِمُعظَمِهِ إلى نَوعيّةِ حَياةٍ لا تَنسَجِم مع التحدّياتِ والتَضحياتِ التي قدّمَها أَسْلافُه وجِيلُ المقاومة (1975/1982). أمّا القادةُ فانقسَموا بأَكثَريّتِهم بين مُتردِّدين ومترِّقبين ومُستسلِمين ومُتقاتِلين.

 

حين كانت المارونيّةُ السياسيّةُ مزدهرةً (1920/1982) حَصلَ تَشكيكٌ بالكِيانِ اللُبنانيّ لِتَذْويبِه في كِياناتٍ أَوْسَعٍ فكَبِحَتْه. ولما ضَعُفت (1983/2020) بَرزَ مَشْروعٌ آخَر، ظاهِرُه الحِفاظُ على الكيانِ اللُبنانيّ كما حَقّقه المَوارِنَةُ (10452 كم²)، وهدَفُه الباطِنيّ السَيْطَرةُ على الدَوْلَةِ وتَقليصُ الدَوْرِ المارونيّ المميَّز فيها.

 

عَمَلِيّةُ ضَرْبِ المارونيّةِ السياسيّةِ والحالةِ المسيحيّةِ عموماً شَمَلَتْ كُلَّ مُستَوياتِ الوجود المسيحي في البلاد: جُغْرافيّاً بِتَهجيرِهِم أَثناءَ الحَربِ، دِيمُوغْرافيّاً بِهُجْرَتِهم الواسِعَةِ إلى بِلادِ الاغتِرابِ، أَمْنيّاً بِنَزْعِ أَسْلِحَةِ المُقاوَمَةِ اللُبنانيّةِ وبِسَجْنِ وِنَفيِّ قادَتِها ومُطارَدَةِ أعضائِها، عَسكريّاً بِتَغييرِ المِيزانِ الطائِفيّ داخِلَ الجَيْشِ اللُبنانيّ، دُسْتوريّاً بانتِزاعِ صَلاحياتٍ من رِئاسَةِ الجُمْهوريّةِ، نِيابيّاً بِقوانينَ انتِخابيّةٍ تُشَوِّه صِحّةَ تَمثيلِهِم، واقتِصاديّاً بِعدَمِ تَخصيصِ مِيزانيّاتٍ لِتَنْفيذِ مَشاريعَ إِنمائيّةٍ في مَناطِقِهم.

 

ورافَقَ هذِه العَمَليّةَ أَوْ سبَقَها أو أَعْقَبَتها: انقِساماتٌ مارونيّةٌ مُضْرَّجَةٌ بِالدَمِّ الغَزيرِ (من 1978 إلى 1990)، انقِلابٌ على خِياراتِ بشير الجميّل وتَبديدُ انتِصارِ سنَة 1982، الابتعادُ عن الخِياراتِ المارونيّةِ التاريخيّةِ إن على الصعيدِ الداخليّ أو الإقليميّ. رغم ذلك صَمّم الموارنةُ على مواصلةِ النضال من أجل لبنان حرٍّ. فالمَوارِنَةُ ما اتّخذوا من لبنانَ مَلاذاً لِأَمنِهِم فقط بَل واحَةَ حُرّية ودوراً إشعاعياً. لو كان الأَمْنُ هاجِسَهم، من دون حُريّةِ المُعتقَد، لَبَقِيَ المَوارِنَةُ الأوائِلُ في بلادِ وادي العاصي.

 

بِصَرْفِ النَظَرِ عن العدد، مِعْيارُ قِياسِ دَوْرِ المَوارِنَةِ وسائِرِ المَسيحيّين في دَوْلَةِ لبنان هو نِضالُهُم في سَبيلِ الكِيانِ اللُبنانيّ، ومسيرتُهم الطويلةُ عبر العصور. لم تولد المارونيّةُ السياسيّةُ من العدمِ أو من مباركةٍ فرنسيّةٍ أو بالصدفة. إنها بنتُ أوجاعٍ كبيرةٍ وتجاربَ قاسيةٍ وممارسةٍ في الفكرِ والسياسةِ والديبلوماسيّة والمقاومة. لقد طبع الموارنةُ هذا الشرق:

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بِفَضْلِ قوّةِ المارونيّةِ السياسيّةِ آنذاك، فَشِلَتْ الدُولُ العَرَبيّةُ في ضَمِّ مُسْلِميّ لبنان إليها، واقتَنَعَتْ الدُوَلُ الأُوروبيّةُ باستِقلالِ لبنان ومَنَعَتْ الدُوَلُ الكُبرى إسرائيل، قَبْلَ التَمَرْكُزِ الفِلسطينيّ العَسْكَريّ في الجَنوبِ، مِن المَسِّ بِسيادَةِ لبنان. وحالَت المارونيّةُ السياسيّةُ نِسبيّاً دُونَ التِحاقِ لبنانَ بِلُعْبَةِ المَحاوِرِ والصِراعاتِ الإِقليميّةِ.

 

لا نَستعيدُ هذه الوقائِعَ التاريخيّةَ المُوثَّقَةَ لِلتَباهي، بَلْ لِلَفْتِ انتِباهِ مَنْ يَظُنُّون أَنَّ نِضالَ سَنَةٍ أو عَشْرَ سنَواتٍ يؤهِّلُهم لأن يخلفوا المارونية السياسية. ولا نَستعيدُ هذه المواقِفَ لِكَي يَسْتَأثِرَ المَوارِنَةُ (والمسيحيون عموماً) بالسُلْطَةِ على حِسابِ الفِئاتِ اللُبنانيّةِ الأُخرى، بل لِوَقفِ مُعامَلاتِ حَصْرِ إِرْثِ المَارونيّةِ السياسيّةِ والتَعدّي على وُجودِها ودَوْرِها. إِنَّ مُتابَعَةَ هذا المَشروع، بل هذا المُخَطّطِ، سَيُؤدّي إِمّا إلى تَقسيمِ لبنان (وهو مُنقَسِم نَفسيّاً وأمنيًّا وحَضاريّاً) أَو إلى اعتِمادِ النِظامِ الفيدرالي.

 

ليس في وارِدِ الشّعبِ المارونيّ أَنْ يَأخُذَ مُبادرَةَ أَهْلِ “المونتنيغرو” مع أَنَّ آخرين في لبنان والمِنطقَةِ يَبنون استِقلالَهم الذاتيَّ وهُم يَرفَعون شِعاراتِ الوِحْدَةِ والتَحريرِ. وليس في وارِدِ الشَّعبِ المارونيّ بالمُقابِلِ أَنْ يتنازَلَ عن دَوْرِه أمامَ قُوّةٍ اعتادَ مُواجهتَها ولا أَمامَ نُعومَةٍ اعتادَ نَزْعَ قِناعِها. لا استِقلالَ لبنانياً بِدونِ وجودٍ مَسيحيٍّ حُرٍّ، ولا وِحْدَةً لُبنانيّةً بِدون دَوْرٍ مَسيحيٍّ رائِدٍ، ولا ريادةً مسيحيةً بدونِ شَراكةٍ ما مع المسلمين والدروز.

 

عُذْراً، نَحنُ شَعْبٌ عَاصٍ من وادي العاصي إلى جبل لبنان.