كلام في السياسة |
تروي إحدى سير سلالة كينيدي الأميركية، أن الصراع بين ابنها الرئيس، جون، وبين مسؤول مكتب التحقيقات الفدرالي الأشهر في تاريخ واشنطن، إدغار جاي هوفر، لم يكن خفياً على أحد. خصوصاً بعد تسلم شقيق الرئيس روبرت، موقع مدعي عام الدولة. كل العوامل باتت تعمّق التناقض بين الطرفين.
صراع الأجيال وطبائع الأشخاص والماضي وصلاحيات الحاضر وطموحات المستقبل… كلها مكوّنات أعلت جداراً شاهقاً من الحرب بين البيت الأبيض وذلك المكتب المهيب القريب في جادة بنسلفانيا الملاصقة. ذات يوم من مطلع الستينات، قرر الرئيس وشقيقه خلع هوفر من منصبه. وعمدا إلى حياكة القرار سراً وبتكتم شديد، حتى لا يجهضه رجل واشنطن القوي بما له من نفوذ ونهج صرفه لمصلحته الخاصة. أو حتى لا يرد عليه بتفجير فضائح البيت الأبيض، من حميميات مارلين مونرو إلى تسجيلات هوليوود التي قيل إن لذته الكبرى كانت في الاستماع إلى دقائق لياليها. كانت خطة آل كينيدي تقضي بتوجيه ضربة مباغتة وصاعقة إلى هوفر. قرار بإقالته فوراً. تعيين بديل. ومتابعة العمل كأن أمراً روتينياً قد حصل. تسرب الخبر بالصدفة إلى أحد صحافيي العاصمة الأميركية. كانت كل صحافة واشنطن تتوق يومها للتخلص من طاغية «المكتب». أخذت نشوة الزميل بدوافعه، فنشر الخبر قبل ساعات من صدور القرار… فأجهض المخطط. حين صدرت الصحيفة حاملة التسريبة، يروى أن روبرت كينيدي اتصل بناشرها قائلاً: شكراً لك. لقد كتبت بخط يدك قرار تثبيت إدغار جاي هوفر في مركزه مدى الحياة. بعد اليوم، لن يجرؤ رئيس على إزاحته. وهذا ما حصل فعلاً. اغتيل جون كينيدي في 22 تشرين الثاني 1963، ثم اغتيل شقيقه روبرت في 6 حزيران 1968، وظل هوفر مسؤولاً عن مكتب التحقيقات الفدرالية حتى وفاته في 2 أيار 1972، في عهد ريتشارد نيكسون. ليمضي بذلك 48 عاماً في موقعه، ويشهد مرور ثمانية رؤساء أميركيين حاربوه وحاربهم وذهبوا وبقي!
شيء من هذا القبيل يحصل في بيروت منذ مئة يوم ويومين. منذ ذلك اليوم الذي سيدخل تاريخ لبنان، تحت عنوان إقفال مزبلة الناعمة. مذذاك، انطلق شيء ما في نفوس الناس. حوّلهم مواطنين. وجعل من صمتهم للمرة الأولى منذ زمن، حراكاً. وجعل من استياء الأفراد مسألة شعبية. فصار هناك حراك شعبي غير مسبوق في مزرعة المزابل اللبنانية. حراك بدأ رفضاً للغرق في الأوساخ لا غير. بعدها راح يتلمس طريقه. حاول طرح الحلول للأزمة. ثم سعى إلى حمل طروحات كبرى. تشعّب وتعدّد وفرّخ حركات وجمعيات. إلى أن وصل إلى هذه اللحظة. هي لحظة الإدراك أننا أمام نظام وسلطة وطبقة حاكمة، لا تصلح لبلد ولا تفقه مفهوم الدولة ولا علاقة لها بمبدأ الشأن العام. هي لحظة الولادة المتعسرة لشيء بديل. أو على الأقل، لسلطة شعبية ضاغطة موازية ومراقبة، أو على الأقل، قادرة على أن تؤشر إلى خطأ وترفع صوتها بالتسمية.
لم تشذ ظاهرة الحراك عن معادلة غاندي الشهيرة في مواجهة أي سلطة طاغية: في البداية يتجاهلونك. بعدها يسخرون منك. ثم يقاتلونك، وبعد ذلك تنتصر. مسار الحراك الشعبي في بيروت مر في المرحلة الأولى طيلة تموز الماضي. تجاهلته السلطة كلياً. بعدها، ومع مطلع آب، تنبهوا إليه. فسخّفوه وسخروا منه. حتى كان صدام 22 آب، فبدأوا بقتاله. كان على «الحراكيين» أن يتوقعوا كل أساليب القمع السلطوي. من الهراوات والرصاص المطاطي، إلى خراطيم المياه والرصاص الحي. وصولاً إلى القمع القضائي واستخدام مطارق الأقواس فوهات في الرؤوس وعصباً لكم الأفواه. انتهاء بما يحصل اليوم من تلفيقات قضائية وتهويل ومحاولات اغتيال سياسي وإعلامي. كل ذلك كان متوقعاً. لا بل كان على مسؤولي الحراك أن يتأكدوا من حصوله. فما أقدموا عليه لم يكن نزهة في شوارع بيروت. ولا هو مسيرة إضراب لعمال مصنع في طوكيو أو في جنيف. هي ثورة في شوارع شيكاغو الثلاثينات. هي حرب في مدينة عصابات توزّعت بلداً كاملاً محميات واقتطعت مرافقه مصادر إتاوات وقطعت شعبه رعايا إقطاعيات قرونسطية. كان عليهم أن يدركوا أنه حين صدرت في وسائل الإعلام لائحة بأسماء موقوفيهم لدى بوليسيي السلطة، حاملة أسماء من كل المذاهب، لحظتها صارت ثورتهم مطلقة، ضد سلطة لم تعرف موقوفين متعددي القبائل الطائفية منذ نصف قرن. كان عليهم أن يتيقنوا أي تنين قد خدشوا أو جرحوا. وأي ارتداد وحشي عليهم سيرتكب. في هذا الوقت بالذات، ذهب الحراكيون إلى انقساماتهم وإلى الصغائر. انزلق بعضهم إلى لعبة الكاميرا المتوحشة وصورة النجم القاتلة وحسابات الدور والأولوية والصف الأول والأسبقية والرائد والتابع. جريمة أن تأكل أبناءها ثورة لم تبدأ بعد. وجريمة أكبر أن يهزموا أنفسهم قبل أن تهزمهم السلطة. هي فرصة لم يعرفها جيلنا ولا من سبقه ولا كل أجيال المحاكم الروحية وأبناء قيود الطوائف ومرجعيات الغيبيات المنصبة على ضمائر الناس من فوق. هي فرصة، إن أهدرتموها، كرستم هذا النظام وسلطته وطبقاته إلى الأبد.