تأتي زيارة الرئيس سعد الحريري الى الرياض، بالمناخ عالي الإيجابية الذي اتّسمت به، والموقف الذي عبّرت عنه القيادة السعودية تجاه لبنان، في منتصف الطريق بين أزمة الاستقالة التي آلت الى التفاهم الداخلي، المُسند دولياً واقليمياً حول “النأي بلبنان” عن صراعات وحرائق المنطقة، وبين الاستحقاق النيابي، ويفصلنا عنه شهران.
ومع الولوج في هذين الشهرين الفاصلين، تغلب مسحة من الواقعية على توقعات مختلف الاطراف مما يمكن ان تجنيه في اطار هذا الاستحقاق، وبمعية هذا القانون. ويتقوم جزء اساسي من المعركة في ادراك ما يفرضه القانون الجديد على طبيعة التحالفات التي تختلف في حالته عن طبيعتها في ظل النظام الاكثري متعدد الاسماء، كما كانت الحال في قوانين الانتخاب السابقة.
من هنا، ثمة صعوبة، عند الجميع، في وضع قاعدة واحدة احادية للتحالفات، وبشكل عام لمنطق صياغة اللوائح، فالسياق مختلف بالضرورة من دائرة الى دائرة. وحتى الساعة، لا يوجد غير “ثابتتين”: التحالف الانتخابي بين “حزب الله” وبين حركة “أمل”، امتناع اي تحالف انتخابي في اي دائرة بين “حزب الله” وبين كل من تيار “المستقبل” وحزب “القوات اللبنانية”. اما في ما عدا ذلك، فالصورة لن تتضح قبل بضعة اسابيع، وإن كانت هناك مؤشرات متزايدة الى ان التيار “الوطني الحر” سينوجد في لوائح منافسة لتلك التي ينوجد فيها “حزب الله” و”أمل” في أكثر من دائرة.
الوقت يداهم الجميع الآن لمعرفة ما الذي يمكن ان تفضي اليه مروحة التواصل والحسابات المختلفة بين القوى، والحسابات عنها تنتمي الى مستويين مختلفين. احدهما يتصل بالتلاقي او الارتياح السياسي المتبادل. لكن المستوى الثاني يتصل بالمنفعة الانتخابية من التحالف. ففي القانون الحالي، يمكن لتحالف انتخابي بين قوتين، في ظروف خاصة بدائرة بعينها ان يعود بالمنفعة على هاتين القوتين، لكن يمكنه في دائرة ثانية ان يعطي من رصيد قوة للاخرى، وبالتالي يتوقف الاخذ والرد حينها على ما يمكن ان يقدم في المقابل، من قوة الى قوة، بين دائرة وأخرى.
حتى آخر لحظة ممكنة، بحسب الروزنامة الانتخابية، لصياغة اللوائح، ستبقى بورصة التواصل حيوية وصاخبة اذاً. هذا يعني ايضاً ان شعارات خوض الاستحقاق، وخصوصاً الشعارات التي يمكن ان تميزه هذا العام عن سابقه قبل تسع سنوات، لا تزال مؤجلة الى حد كبير. مع هذا، يمكن منذ الآن القول ان مقولة “النأي بالنفس” تطرح نفسها، من بابين. إما التقدم باتجاه بلورتها بشكل منهجي اوسع، بحيث تنتقل من اطار تحديد نفسها سلبياً الى تحديد نفسها ايجابياً، كاستراتيجية لبنانية عامة في المنطقة وحيال ازمات المنطقة، أو تبقى سياسة نأي “عتبة تلو عتبة”. تحويل سياسة النأي الى سياسة منهجية، ممأسسة أكثر فأكثر، هو مآل اساسي للمعركة الانتخابية، مثلما ان سياسة النأي، في حدودها الحالية، هي اطار أمان الاستحقاق النيابي الحالي.
غاية القول إن النأي مسار. مسار لا يمكن ان يتوقف عند النقطة الحالية. فإما يتقدّم وإما يتراجع. وكي يتقدّم لا بد له من الاتصال مع جملة حوافز وتفاهمات. اهمها التيقّن من ان تمكّن لبنان من تفادي انتقال الحريق الاقليمي اليه، بضراوة، هو امر لا بد من الحرص عليه والتأسيس عليه، بالرغم من واقعة تدخّل قسم من اللبنانيين في هذا الحريق. لا بل ان تفادي الانزلاق لبنانياً، هو المدخل الاساسي لمقاربة لبنانية ضاغطة من اجل وضع حدّ لمنطق التدخّل الفئوي للبنانيين في الحرب السورية وسواها.
ما كان للنأي ان يكون اداة سحرية. كمثل ان يستتبع فوراً خروجاً لـ “حزب الله” من سوريا، أو تخففاً من الارتباط العضوي من طرف الحزب بحرس الثورة الايرانية. لكن هذا النأي لم يكن ايضاً مجرد كلمة عابرة. هو عنوان لتفاهم، جانب منه داخلي وجانب آخر خارجي. وضعت امامه مجموعة عراقيل في الشهور الماضية، لكن مسار النأي تمكّن من الاقلاع بالتي هي احسن، وظهر هذا ملموساً، أو بالاحرى واعداً، في محطات بارزة منها اجتماع باريس، والصدى العربي، السعودي والخليجي تحديداً، المرتاح لهذه الوجهة، وهو ما عكسته زيارة الرئيس الحريري الحالية.
لا يلغي كل هذا، ان المثابرة على النأي بالبلد عن حرائق المنطقة، عليه ان يسلك سبيلاً اكثر منهجية، قادراً على حماية مساره، الامر الذي يتعلّق اساساً بانبثاق مظهر واضح للدولة اللبنانية، كدولة، في تعاطيها مع الكارثة السورية وتداعياتها.
ففي نهاية المطاف، طالما ظلّ “حزب الله” يقاتل في سوريا، سيبقى “النأي” مقولة بحاجة للاستكمال. لكن استكمال منهاج النأي لا ينحصر بهذا وحده. يرتبط ايضاً بجهوزية للتطرّق لشتى اشكال الهشاشة في الاوضاع اللبنانية.