السجال الذي اندلع فجأةً حول البطاقة البيومترية وقانون الانتخاب مرشّح لأن يتصاعد ويشتدّ قبل أن يَنتهي من دون تسجيل أيّ نتيجة جديدة، خصوصاً أنّ ملفات أخرى ستدخل حلبة السجال مثل القرار بتوطين النازحين السوريين في لبنان، وهو ما أفصَح عنه بفجاجة الرئيس الاميركي دونالد ترامب من على منبر الأمم المتحدة.
أسرار كثيرة واكبت الولادة الصّعبة والمضنية لقانون الانتخاب، وما طفا على سطح الإعلام حول النقاشات الإنتخابية لا يعكس بالضرورة حقيقة مواقف الأطراف السياسية ونيّاتها وسط مناورات تجاوزت حدودها المعقولة، وانقلبت قانوناً بات يرزح فوق رؤوس معظم القوى السياسية.
وكان صادماً أن تعمد القوى السياسية إلى إجراء دراسات مكثّفة للنتائج التي سترسو عليها الانتخابات في ظلّ القانون الجديد، ولكن بعدما تمّ إقرارُه وليس خلال النقاشات الصعبة التي سبقت ولادته.
وما زادَ من غموض الصّورة وصعوبة الموقف انقلاب التحالفات وتبدّل المعطيات السياسية التي فرضتها مرحلة جديدة بدأت مع وصول العماد ميشال عون الى قصر بعبدا.
وخلال الاسابيع الماضية، دار همس في الأروقة السياسية حول ضرورة حصول تعديلات على القانون الانتخابي الجديد، وإلّا فإنّ الانتخابات برمّتها ستكون في خطر.
فالإنتخابات هي حسابات تتعلّق بالربح والخسارة وبموازين قوى في مجلس نيابي أمامه استحقاقات كبيرة تتعلّق بالسلطة، بدءاً من رئاسة المجلس النيابي مروراً برئاسة الحكومة وبفرض المرشح الأكثر استحقاقاً و«تمثيلاً» لرئاسة الجمهورية، أضف الى ذلك الاستحقاقات الاقتصادية التي تنتظر لبنان كالنفط وغيره والاستحقاقات الخارجية.
وبخلاف ما يُروّجه البعض حول عدم قدرة أيّ فريق على تطيير الانتخابات النيابية، فإنّ الانتخابات الفرعية تمّ تطييرها وبأسلوب وقح، ومن دون أيّ تبرير بسبب عدم ضمان النتائج.
وبالتحديد هناك عائقان أمام تعبيد الطريق لحصول الانتخابات في موعدها:
ـ العائق الأوّل، وله علاقة ببعض التعديلات المطلوبة، والتي تؤدّي الى نتائج مختلفة مثل اعتماد صوتين تفضيليّين بدلاً من الصوت الواحد، وقد لمّح رئيس الحكومة سعد الحريري الى ذلك أمس، ولو بنعومة بعد خروجه من اللقاء مع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي حين قال «إنّ هناك أموراً تحتاج الى توضيحات في شأن القانون الانتخابي».
ـ العائق الثاني، يتعلّق بالتحالفات وسط النزاعات الحاصلة وتضارب المصالح للمرحلة اللاحقة. فالدائرة الثالثة في الشمال تختزن نزاعاً قاسياً الى درجة أنها أدّت إلى تصدّع العلاقة بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، وهو ما يعني وجوب وضع ضوابط سياسية للتنافس الانتخابي.
كذلك صحيح أنّ تيار «المستقبل» و«التيار الوطني الحر» صاغا تفاهماً على قاعدة التحالف الانتخابي تطاول مفاعيله التركيبة الحكومية المقبلة في ظلّ التجربة الحالية الناجحة لناحية التفاهم والتنسيق بينهما، لكنّ هذا التحالف غير قادر وحده على ضبط الصورة لاحقاً وضمان موقع قويّ داخل المجلس النيابي.
فالتراجع كبير لدى تيار «المستقبل» داخل الشارع السنّي، واستطلاعات الرأي متشابهة لجهة النسبة المتراجعة التي يجري إعطاؤها الى «المستقبل». أضف الى ذلك طريقة جمع «التيار الوطني الحر» بين حلفه الجديد مع «المستقبل» وتحالفه القديم والثابت مع «حزب الله».
العارفون ينقلون مثلاً عن «حزب الله» أنّ صورة التحالفات الانتخابية لا تزال مبهمة وغير واضحة وضبابية، باستثناء أنّ التفاهم الانتخابي بين الثنائي الشيعي قد أُنجز في كلّ المناطق والدوائر، لكنّ الجديد ما بدأ يتسرّب من مصادر «حزب الله» خلال الأيام الماضية من أنّ ليس بالضرورة حصول مواجهات بينه وبين تيار «المستقبل» في كل الدوائر.
ذلك أنّ احتمالات خوض الانتخابات بلوائح مشتركة في بعض الدوائر هو احتمال قائم، لكنّ السؤال هنا حول قدرة الحريري على خوض هذه التجربة الصعبة داخل الشارع السنّي مع التراجع الذي يُصيب تياره، والمرجّح عندها أن يزداد حدة، فيما خصومه داخل الطائفة «ينتظرونه عند الكوع» وأبرزهم على الاطلاق اللواء اشرف ريفي.
فعلى سبل المثال، إنّ التحالف الثلاثي «المستقبل – التيار الوطني الحر – حزب الله» في دائرة زحلة، وهي إحدى اصعب الدوائر، سيؤدّي الى تراجع قوة «المستقبل» والتي حدّدتها استطلاعات الرأي أخيراً بـ 35 في المئة.
كما أنّ رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع بات مرتاباً من افتقاده الى حليف انتخابي وازن وقويّ، عدا الحلف القائم بين «القوات» والحزب التقدمي الاشتراكي في الشوف وعاليه.
وعندما زار جعجع الحريري في «بيت الوسط»، اكتشف مجدّداً مدى التحالف القوي القائم بين الحريري والوزير جبران باسيل، وأنّ اولوية الحريري المطلقة تبقى في العلاقة القوية مع «التيار الوطني الحر».
وبعد هذه الزيارة، أضفى جعجع بعض المرونة على موافقه المعارضة لباسيل، فتراجع في موضوع خطوط التوتر العالي واختفت انتقاداتُه التي سادت خلال المرحلة الماضية.
وانطلاقاً ممّا سبق، يعتقد المراقبون أن لا أحد منزعجٌ فعلياً من تأجيل الانتخابات، ولو أنّ الوقت ما زال مبكراً لحسم الموضوع في هذا الاتجاه او ذاك، لكنّ زرع الالغام جارٍ على قدم وساق لعلّها تُستعمل لتفجير الانتخابات لاحقاً.
واللافت اكثر ما ردّده السفير الفرنسي امام زواره اللبنانيّين، وهو موقف يتناغم مع ما بدأ يُردّده الديبلوماسيون الأميركيون المعتمدون في لبنان. فعدا الانشغال الكامل بالملفّات الإقليمية قال السفير الفرنسي لزواره: «نحن بالتأكيد نعارض أيّ خطوة تؤدّي الى تأجيل موعد الانتخابات، لكنّ معارضتنا هذه لن تتحوّل خطةً للضغط، بل ستبقى في إطار تسجيل موقف.
ذلك أنّه اصبح لديكم سلطة كاملة ورئيس للجمهورية ورئيسان للمجلس النيابي والحكومة، وهم مؤتمَنون على البلد. ونحن لسنا هنا لنشكّل سلطة وصاية ونلزم اللبنانيّين ما يجب أن يفعلوه. المسألة تعود لكم ولمؤسّساتكم الدستورية، ولو أننا سنُبدي معارضتنا لأيّ تأجيل للانتخابات».
وهذا الكلام الفرنسي والمتناغم مع الاميركي يبقى كلاماً جميلاً، لكنه يفتح شهيّة الذين يفكرون في التمديد إذا لم تتحقّق مطالبهم. أضف الى ذلك التطوّرات السورية، حيث يندفع الجيش السوري في اتّجاه البوكمال وليس دير الزور، كما أوهم بتحرّكاته التحالف الغربي، وذلك بهدف تأمين الطريق البرّية من طهران حتى جنوب لبنان، فيما إسرائيل ستعمل على تكثيف استهدافاتها الامنية في محاولة للخربطة على هذا التواصل البري.
أما على المستوى السعودي – الإيراني، فإنّ ما كان يظهر من بشائر إيجابية لإعادة التواصل بين البلدين عاد وانقطع فجأة لأسباب داخلية سعودية تتعلّق بإمساك وليّ العهد الامير محمد بن سلمان بكلّ محاور السلطة، في وقت تستمرّ الحرب في اليمن حيث بدأت طهران ترغب في المساعدة في اليمن.
وعلى رغم أنّ طهران تريد إنجاز التفاهم مع الرياض تمهيداً لإغلاق ملف الفتنة السنّية – الشيعية والذي يؤذي إيران كثيراً ومصالحها في المنطقة، فإنّ الظروف لا تبدو مساعِدة في هذا الاتجاه الآن في وقت تدور اسئلة حول النزاع السعودي الداخلي ووجود أطراف داخلية تمنع حصول التواصل.
المهم أنّ المراعاة الإيرانية للسعودية قد يصل مداها الى لبنان، إما في التحالفات الانتخابية او ربما في تأجيل الاستحقاق إذا كان ثمّة ما يتطلب ذلك.