عندما أنشِئت منظمة الأمم المتحدة (24 تشرين الأول / اكتوبر 1945)، مُنِح الأمين العام حق اختيار مبعوثه الشخصي للتوسط في حل الأزمات المستعصية. وكان الاختيار يتم في الغالب من دول محايدة ومسالمة مثل السويد والنروج.
ومن أشهر المبعوثين الذين اختيروا لمهمة الوساطة كان الكونت فوك برنادوت الذي أرسله الأمين العام في أيار (مايو) 1948 لتسوية النزاع القائم بين الفلسطينيين والاسرائيليين. وقد عُرِف الكونت برنادوت، حفيد ملك السويد غوستاف، بالاستقامة والنزاهة بحيث أنه اختير لرئاسة جمعية الصليب الأحمر الدولي.
وبعد وصوله الى فلسطين، نجح هذا الوسيط في إقناع الفريقين بضرورة إعلان وقف إطلاق النار. وعندما قدم مبادرته لحل الخلاف رفضتها اسرائيل لأنها تقضي بضرورة إرجاع المهجرين الفلسطينيين الى كل الأراضي المحتلة في حرب 1948. ولما رفض الخضوع للابتزاز والتهديد، قررت عصابة «شتيرن» اغتياله على يد اسحق شامير، الذي تولى رئاسة الحكومة منتصف الثمانينات.
بعد مرور نحو 67 سنة على تلك الحادثة، كتب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون هذا الأسبوع مقالة في الصحف الأميركية تحت عنوان: «على إسرائيل ألا تقتل الساعي». وكان بهذه الإشارة الرمزية يذكّر المجتمع الدولي بأن الضغط على اسرائيل كي توقف مشاريع الاستيطان قد يكلفه حياته مثلما حدث للوسيط برنادوت.
وربما تكون المرة الأولى التي يُعرب فيها هذا الأمين العام عن قلقه العميق إزاء مشاريع الاستيطان. وقد حذر، أثناء مخاطبته مجلس الأمن الدولي، من تأثير هذا التوسع الاستفزازي، بحيث توقع موت مشروع الدولتين الى الأبد. وزاد محذراً: «لقد أثبتت الأحداث على مدار التاريخ أن الشعوب المضطهدة ستقاوم الاحتلال. هذه طبيعة البشر». واتهمه رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو بأنه يحرّض الفلسطينيين على استخدام سلاح الارهاب كونه يمنح شرعية للقتلة!
إنسجاماً مع مبدأ اختيار المبعوثين، قام بان كي مون باختيار ستيفان دي ميستورا لمعالجة الأزمة السورية. والسبب أن جنسيته الايطالية لا تلغي ارتباطه بالسويد لجهة ترؤسه مجلس إدارة المتحف الذي وهبه لإيطاليا الطبيب والكاتب السويدي اكسل مونتانه.
إضافة الى هذا، فإن دي ميستورا، الذي يحمل لقب مركيز، سبق له أن خاض تجربة ديبلوماسية غنية جمعها من الوساطات التي قام بها في أفغانستان والعراق ولبنان. علماً أن المراقبين شككوا في قدرته على حل مشكلة معقدة كالمشكلة التي يشرف على إدارتها من دمشق وجنيف.
وعلى رغم تزايد الشكوك، فإن مبعوث الأمين العام تعهد بتذليل الصعاب، مؤكداً تصميمه على عدم تفويت الفرصة التاريخية بعد حرب مستمرة منذ حوالى خمس سنوات. ولكن التفاؤل الذي أظهره دي ميستورا لا تشاركه فيه الهيئة العليا للمفاوضات المنبثقة عن المعارضة السورية والتي تضم مسؤولين سياسيين وممثلين عن المعارضين المقاتلين.
كذلك أعرب السفير بشار الجعفري، رئيس وفد الحكومة السورية، عن رفضه قبول شروط مسبقة، أو أي تدخل خارجي، لأن الحوار غير المباشر في رأيه يجب أن يكون بين السوريين. ولما سئِل عن معاناة الشعب السوري، وجّه الجعفري انتقادات قاسية الى اللاجئين معتبراً أنهم هاجروا بسبب العقوبات المفروضة على سورية. وادّعى أيضاً بلهجة ساخرة: ان الذين خرجوا الى اوروبا ليسوا لاجئين، بل أشخاص يبحثون عن حياة رغيدة، وعن فرص عمل أفضل. وليس كما تزعم الصحف بأنهم هربوا بسبب الممارسات البغيضة للحكومة السورية. واعتبر الجعفري أن الطرف الآخر يجهل مضمون القرار 2254 وفحوى بياني فيينا.
والواقع أن القرار المذكور تعرض للتعديل من قِبل دي ميستورا، الذي توجه مطلع هذا الأسبوع الى مجلس الأمن طالباً تأجيل المفاوضات الى 25 الشهر الجاري. لأنه اكتشف أن البرنامج الذي وضعته المجموعة الدولية مفرط في التفاؤل، وأن من غير الممكن إجراء الانتخابات في الموعد المذكور.
وحقيقة الأمر أن المبعوث الدولي اكتشف الثغرات السياسية التي تحول دون الوصول الى الهدف المطلوب، وأنه يريد تهيئة ظروف اقليمية ودولية تساعده على حلحلة الوضع المعقد. أي دعم انتخابات نزيهة، وصياغة دستور جديد. وهذا يقتضي بالضرورة تجنيد آلاف الموظفين إذا كانت الانتخابات ستشمل جميع السوريين الذين تحق لهم المشاركة، بمَنْ فيهم اولئك الذين يعيشون في المهجر ومخيمات اللاجئين في تركيا والأردن ولبنان والعراق وكردستان. إضافة الى أعداد كبيرة لجأت الى أربعين بلداً غربياً، أي إجراء إحصاء تقريبي يغطي 6.5 مليون نسمة من النازحين داخل سورية و4.59 مليون من اللاجئين في دول الجوار.
يقول معاونو دي ميستورا إنه اكتشف خلال الأسبوع الماضي صعوبة تدوير الزوايا الحادة. كما أن منظمات المعارضة تتكون من قائمتين: قائمة شكلتها «الهيئة العليا للمفاوضات» المؤلفة من قوى اجتمعت في الرياض الشهر الماضي. وقائمة ثانية تسمى «مجلس سورية ديموقراطية»، في حين يطلق عليها البعض «القائمة الروسية» كونها تحظى بتأييد روسيا وإيران. ومقابل هاتين القائمتين تقف مجموعة ممثلي النظام السوري وعلى رأسها وزير الخارجية وليد المعلم.
في بداية نشاطه، اعتمد المبعوث الخاص على الاتفاق الذي تم بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية الاميركي جون كيري. وينص على صوغ دستور جديد بجهود مشتركة، واستحداث آليات للرقابة على الانتخابات المبكرة. وقال بوتين عقب ذلك الاتفاق أنه نجح جزئياً في توحيد جهود الجيش السوري النظامي، كما نجح في مكافحة «داعش».
حقيقة الأمر أن غاية موسكو وواشنطن من وراء مواصلة رعاية عملية السلام في سورية هي تعزيز التقارب الاميركي – الروسي. خصوصاً أن التطورات السياسية، التي حدثت في آخر السنة الماضية، ساهمت الى حد كبير في تنشيط هذا التوجه. فالاتفاق النووي الإيراني خلق انفراجاً دولياً مهَّد الطريق أمام ديبلوماسية جديدة. كذلك أظهرت موسكو مؤشرات جدية لايجاد سلام في سورية، عقب تدخلها العسكري.
تقول الصحف الاميركية إن الرئيس باراك اوباما يرغب في تسليم خلفه علاقات مع روسيا أقل اضطراباً وتشنجاً. وربما يساعد تجاهل موسكو للأزمة الاوكرانية في تحقيق هذا الأمر. ولقد ظهر هذا التوجه واضحاً من خلال تعاون كيري وسيرغي لافروف على حل القضية السورية.
ولكن التماثل بين الدولتين الكبيرتين في موقع معين لا يعني أن هذا التماثل ينسحب على مختلف المواقع. والدليل أن وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف صرح أثناء زيارته لأبو ظبي بعدم شرعية «جيش الاسلام» و «أحرار الشام». ومع هذا كله، فقد أعلن أن بلاده تدعم كل حوار سوري – سوري يقود الى السلام والتهدئة.
المبعوث الخاص دي ميستورا يذهب في تصوره للحل الى أبعد من هذه الرؤية السياسية. أي الى الاعتماد على دور السلام المطلوب من منظمة الأمم المتحدة التي يمثل أمينها العام. وهو يرى أن هذه المنظمة لم توقف مفاوضات السلام في قبرص بين الجاليتين التركية واليونانية. وعلى رغم التعثر الذي واجهته عملية المفاوضات طوال خمسة عقود، فإن المحاولات المكررة لم تضعف.
ومع أن الأزمة السورية تبدو أقرب في خطورتها وحدّتها الى أزمة الصومال، إلا أن الأمم المتحدة بقيت مصرّة على جمع الأجنحة الصومالية المتخاصمة منذ منتصف التسعينات.
المساعي التي قام بها دي ميستورا يمكن حصرها بأربع مشاكل ملتهبة: 1- وقف إطلاق النار، 2- تأمين المساعدات الانسانية، 3- محاربة الارهاب، 4- تشكيل حكومة انتقالية تتولى مهمة صوغ الدستور وإجراء انتخابات عامة.
وكان من الطبيعي أن تتعثر مهمته، الأمر الذي دفعه الى التأجيل بانتظار تدخل الدول المعنية مع ممثليها. خصوصاً أن المبعوث الخاص لم ينجح في تنسيق الأولويات. فالنظام السوري مثلاً يريد التوصل الى اتفاق بخصوص محاربة «الارهاب». وكلمة «إرهاب»، وفق قاموس النظام، تعني «داعش»… مثلما تعني المنظمات الوطنية التي تطمح الى إنهاء حكم آل الأسد بعد نصف قرن. كذلك تطالب هذه المنظمات بضرورة تغيير النظام كشرط أساسي للموافقة على الأمور الأخرى.
ومن خلال هذه الأجواء القاتمة، حاول دي ميستورا الحصول على إجماع يؤدي الى وقف إطلاق النار يمكنه من إجراء ترتيبات تؤمن وصول المساعدات الانسانية الى المحتاجين. وهكذا انحصرت أولويات الولايات المتحدة بمحاربة «داعش»، بينما ركز مندوب روسيا على إبعاد تأثير واشنطن على المفاوضات بحيث لا يكون النظام الجديد متعاوناً معها.
والسبب، كما تناقلته الصحف، يعود الى اهتمام البنتاغون بتوسيع مساحة المطار الذي تستخدمه القوات الأميركية كقاعدة جوية لطائراتها المروحية. أي المطار الذي استقبل عشرات المستشارين في محافظة الحسكة شمال شرقي سورية. ووفق مصدر عسكري، فإن هذه القاعدة معدة لاستقبال طائرات شحن بسبب طول المدرج المؤهل لاستقبال طائرات حربية مقاتلة.
وأكد «المرصد السوري لحقوق الانسان» أن المطار لم يُستخدَم في عمليات عسكرية حتى الآن، ولكنه يؤمن التنقلات اللوجستية لعسكريين اميركيين يعملون في مناطق يسيطر عليها الأكراد. وأكد مسؤولون في البنتاغون إرسال قوات خاصة الى سورية والعراق للمساهمة في تنفيذ عمليات محدودة ضد «داعش».
لكن بوتين يرى في هذه الثغرة مدخلاً للنفوذ الاميركي يمكن استغلاله للقيام بدور أكثر تأثيراً وأهمية. وهو بالطبع يراهن على التمسك بشرعية الأسد، معتبراً أن السوريين وحدهم مخولون بتقرير مصيره. ويشاطره هذا الرأي حليفه الايراني الذي يؤيد إدارة الأسد لجولة انتخابات الرئاسة المتوقعة سنة 2017.
في مقابل هذا التصور، تعمل على الجهة الأخرى الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا والسعودية. والهدف من تحركاتها يرمي الى محاربة «داعش» وإسقاط بشار الأسد.
والمؤكد أن التدخل العسكري الروسي في سورية كان معنياً بمنع حدوث هذا التصور. وقد أعرب بوتين عن تخوفه أمام الوزير كيري من تنفيذ هذا السيناريو، مذكراً بأن الولايات المتحدة لم تجنِ من إسقاط الدكتاتورَيْن صدام حسين ومعمر القذافي سوى الفوضى والعنف. وحذره من أخطار هذه المغامرة التي ستفسح المجال أمام عشرات القوى المتربصة بالنظام، وفي طليعتها «داعش» و «جبهة النصرة».
من هنا ترى أحزاب المعارضة السورية أن الجيش النظامي لا يقاتل «داعش» بالحدّة التي يقاتلها بها، لأن فظائع «داعش» أصبحت عنصراً مركزياً لاستمرار حكم بشار الأسد!