تركت المشاركة العسكرية الروسية في الصراع السوري تأثيراً مباشراً على علاقات موسكو بدول الشرق الأوسط. والمسألة محط الاهتمام الأكبر من جانب المحللين العسكريين باتت تتعلق بتنامي التفاعل بين موسكو وطهران داخل سوريا. رسمياً، أيدت السلطات الإيرانية قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نشر قوات جوية روسية في قاعدة حميميم في اللاذقية. وأشاد غالبية السياسيين الإيرانيين بالدور الروسي في دعم نظام بشار الأسد، في الوقت الذي حرصت وسائل الإعلام الرئيسية في إيران على تغطية نشاطات الجيش الروسي داخل سوريا على نحو كامل بما يتماشى مع السياسات الدعائية التي تنتهجها موسكو.
ومع هذا، ثمة خلاف واضح داخل صفوف الخبراء الدوليين حول طبيعة الحوار الروسي – الإيراني بخصوص سوريا. إذ يعتقد بعض الخبراء أن حدوث شقاق في التحالف الروسي – الإيراني أمر حتمي. في الواقع، ثمة نقاشات غير معلنة تدور بالفعل في إيران حول مدى ضرورة التعاون مع الجانب الروسي داخل سوريا. علاوة على ذلك، يشكك بعض صانعي السياسات والمحللين في طهران بحذر من جدوى المشاركة العسكرية الإيرانية ذاتها في سوريا.
ومع هذا، تظل الحقيقة أن هذه التساؤلات تدور داخل دائرة محددة وضيقة من النخبة السياسية الإيرانية دون أن تصل إلى مستوى النقاش الوطني. بجانب ذلك، ليس ثمة احتمال في أن تنجح هذه النقاشات الإيرانية الداخلية في إحداث تغيير في المسار الدبلوماسي للبلاد من دون مباركة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي الذي يملك سلطة اتخاذ القرارات الفاصلة بخصوص القضايا السياسية الحساسة. جدير بالذكر أنه خلال لقائه بوتين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 أعطى خامنئي الضوء الأخضر للتعاون الإيراني مع روسيا حول القضية السورية.
ولاقى قرار خامنئي تأييداً عاماً من المحافظين المعتدلين الذين يهيمنون على الحياة السياسية بالبلاد. وفور زيارة بوتين إلى طهران، صاغ مستشار المرشد الأعلى للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي (المشارك بعمق في الجهود الدبلوماسية الإيرانية حول سوريا) وجهة النظر الرسمية بخصوص التعاون الروسي – الإيراني التي أصبحت مقبولة على نطاق واسع داخل المؤسسة السياسية الإيرانية. وأوضح ولايتي أن السلطات الإيرانية عاقدة العزم على بناء «تعاون مستمر وطويل الأمد مع روسيا» حول سوريا.
الملاحظ أن ثمة عوامل جيواستراتيجية دعمت بالفعل تعزيز التعاون الروسي – الإيراني داخل سوريا. بالنسبة إلى طهران، جاءت المشاركة العسكرية الروسية في الشؤون السورية لتمنح السلطات الإيرانية ما كانت تتطلع نحوه على امتداد العقد الماضي: أساس سياسي وعسكري متين لتنمية علاقات ثنائية بين الجانبين.
أيضاً، يفرض الوضع على الأرض التعاون بين موسكو وطهران. من جانبها، كان لطهران السبق في إمداد النظام السوري بالأسلحة والمال و«المتطوعين» والميليشيات، في الوقت الذي حاولت روسيا بادئ الأمر الحد من مشاركتها في الأزمة السورية وقصرها على الدعم الدبلوماسي للأسد. لكن بحلول 2015، كانت الموارد الإيرانية تعرضت لاستنزاف بالغ. إضافة لذلك، بات واضحاً أن تلك الموارد غير كافية لإنقاذ الأسد. وفي ذلك الوقت أيضاً، كانت طهران تورطت ليس في الحرب السورية فحسب، وإنما كذلك الصراع في العراق واليمن. وعليه، وجدت الحكومة الإيرانية نفسها مضطرة لتقسيم مواردها البشرية والمادية المحدودة بين هذه الدول الثلاث.
ومع بداية المشاركة العسكرية الروسية المباشرة في سوريا، تراجعت إلى حد كبير الأعباء على كاهل إيران، من خلال إحداث تغيير راديكالي في توازن القوى لصالح دمشق.
بشكل عام، ثمة مصلحة قوية لكل من موسكو وطهران في إنقاذ النظام السوري، لكن كل طرف يطرح حججاً مختلفة لتبرير ذلك. من جانبها، تمثل الدافع الأكبر وراء التحرك الروسي لدعم الأسد في المخاوف الأمنية والمواجهة مع الغرب وخطط بوتين لإعادة بناء روسيا كقوة عالمية مؤثرة. وبالنسبة لطهران، من المعتقد أن استراتيجيتها تجاه سوريا جزء من استراتيجية أكبر وضعها خامنئي وفريق العمل المعاون له ترمي إلى ضمان هيمنة إيران على المستوى الإقليمي، بل وصاغ المحافظون الإيرانيون مفهوم «سلسلة الدفاع» التي تتألف من لبنان وسوريا والعراق واليمن.
تبعاً لهذه النظرية، فإن كلاً من هذه الدول تشكل «خط مواجهة أمامي» للدفاعات الإيرانية في مواجهة خصوم دوليين وإقليميين للجمهورية الإسلامية يسعون بدأب لتقويض نفوذها داخل الشرق الأوسط. وعليه، فإن إضعاف النفوذ الإيراني بأي من الدول الأربع يمكن أن يخلف تداعيات سلبية عالمية على طموحات الجيواستراتيجية لطهران. وبطبيعة الحال، فإن هذه الرؤية إزاء سوريا تجعل بقاء نظام الأسد الموالي لطهران قضية وجودية بالنسبة للأخيرة. وبذلك، وجدت إيران نفسها مع روسيا في معسكر القوى الدولية ذات المصلحة في بقاء النظام السوري.
ومع هذا، تتسم كل من روسيا وإيران بقدر بالغ من البراغماتية بخصوص تعاونهما في سوريا، الأمر الذي يفيد أيضاً في الحوار بينهما. في الواقع، تعي كل من موسكو وطهران تماماً حقيقة الأهداف الكبرى للطرف الآخر من وراء المشاركة في سوريا، ومدى الاختلافات بين أهداف كل جانب. وقد جرت الإشارة علانية إلى هذا الأمر من جانب علي ولايتي عام 2015، ذلك أنه في خضم وصفه لمستوى التعاون بين روسيا وإيران داخل سوريا، أشار إلى أن: «كل دولة تتبع مصالحها، لكن ليس بمقدور روسيا حماية مصالحها في الشرق الأوسط والمنطقة بمفردها». بمعنى آخر، توصلت روسيا وإيران إلى تفاهم يقوم على فكرة أن ضمان مصالحهما داخل سوريا يقتضي تعاونهما معاً. وبالتالي، عقدت موسكو وطهران «زواج مصلحة» بينهما يحاول في إطاره كل جانب تحقيق مصالحه بمعاونة الطرف الآخر.
ومع هذا، لا يزال من المبكر للغاية الحديث عن ظهور تحالف روسي – إيراني كامل داخل سوريا، ذلك أن التنسيق العسكري بين الجانبين جاء متقطعاً حتى الآن. والواضح أن الطرفين ليسا في عجلة من أمرهما لبناء هيكل قيادة عسكرية مشتركة. وحتى هذه اللحظة، يجري التعاون بينهما من حين لآخر، والواضح أن الطرفين يفضلان اتخاذ سبل متوازية نحو الوجهة ذاتها.
إضافة لذلك، فإن هذه الصورة من «زواج المصلحة» بين البلدين تحول دون تطور العلاقات بينهما إلى تحالف استراتيجي. ومن أجل تحقيق الهدف الرئيسي حالياً، أي إنقاذ النظام السوري، اتفق البلدان على تجاهل الخلافات بين توجهيهما نحو تسوية قضايا تتسم في الوقت الراهن بأهمية ثانوية. ويعني ذلك أن مناقشة مثل هذه القضايا (مثل مستقبل الأسد أو الخطط الإيرانية لاستخدام أراض سورية في الاستمرار في تقديم دعم لجماعة «حزب الله» في لبنان) مؤجلة فحسب.
من ناحية أخرى، ثمة عامل آخر يحد إمكانات الحوار الروسي – الإيراني يتمثل في دول أخرى. من ناحيتها، تحرص موسكو على ألا يضر تعاونها مع سوريا بجهود تنمية علاقاتها مع قوى إقليمية أخرى. وعليه، فإنه من خلال تحالفها مع طهران، فإن موسكو قد تضر بذلك بعلاقاتها مع «شريكها الصامت» في الشرق الأوسط – إسرائيل، والتي اتخذت مواقف داعمة لموسكو فيما يتعلق بضم القرم والعقوبات الغربية ضد موسكو ووجود قوات جوية روسية داخل سوريا.
أما عن الفترة المقبلة، فمن المعتقد أن التعاون الروسي – الإيراني سيستمر بخصوص سوريا، لكن ستبقى هناك صعوبة وراء تحول هذا التعاون إلى تحالف بالمعنى الكامل. ورغم قوة العوامل التي تدفع البلدين تجاه بعضهما البعض، فإن «زواج المصلحة» القائم بينهما يعتمد استمراره على عدد من العوامل المتنوعة. وبالنظر إلى أن الطرفين أجبرا على التعاون معاً داخل سوريا وأن ثمة اختلافاً في دوافعهما وراء ذلك، بجانب إدراكهما لحقيقة أن بناء تحالف كامل بينهما قد يضر بعلاقاتهما بأطراف أخرى، فإنه يمكن القول بأن التعاون الروسي – الإيراني وصل بالفعل الحد الأقصى الممكن له.
*زميل باحث في «تشاتام هاوس» في لندن ومحاضر في الجامعة الأوروبية في سانت بطرسبورغ.
* خاص بــ«الشرق الأوسط»