IMLebanon

قوّة الحوار نابعة من «ضعفين»

الحوار حتماً، وحتميّته ديبلوماسيّة صرفة. تريده المجموعة الدوليّة لدعم لبنان. سفراؤها ناشطون، ويحرصون على تدعيم ركائزه. أما نتائجه فيختصرها أحدهم: «الزرع اليوم، والحصاد غداً».

مقتضيات إستمراره كثيرة، أبرزها ثلاثة: تعطيل الألغام والعبوات الناسفة الداخليّة التي تتهدّد السلم الأهلي. تمتين أواصر الوحدة الوطنيّة قدر الممكن والمستطاع في وجه الأعاصير الإرهابيّة، والمذهبيّة، والطائفيّة التي تجتاح دول المنطقة. والحرص على جهوزيّة الساحة لتكون حاضرة لمواكبة مسار التسويات عندما يؤون أوانه.

وعامل التشويق موجود، وأمام كلّ جلسة حوار هناك مهرجان زجلي من العيار الثقيل بين الجوقتين، يكاد المتابع أن يحبس الأنفاس عندما ينزل الفرسان الى الساحة للتبارز عبر وسائل الإعلام، وفجأة يأتي الصوت «الفصل» من عين التينة: «الى الحوار دُر. الحوار حتماً».

يُسجّل بعض البعثات محطات «للحوار المأزوم، في الزمن المأزوم». بدأ عمليّاً – وفق قراءتها – بعيد 14 شباط 2005 تاريخ إستشهاد الرئيس رفيق الحريري، يومها كان لبنان على موعد مع تحديات خطيرة.

كان «الأمن المستعار» يعمل على إفتعال فوضى مسلّحة، للردّ على القرار الأممي 1559، وممارسة ضغوط على الولايات المتحدة، والدول الكبرى النافذة لإستصدار قرار يقضي بتفويض أمني جديد، ولولاية مديدة. إلّا أنّ المجتمع الدولي بقيادة واشنطن حمى الوحدة الوطنيّة بقرارات مصيريّة ثلاثة: تحديد موعد نهائي وإلزامي لإنسحاب الجيش السوري، ووضع حدٍّ للوصاية السورية على مرافق البلد ومقدّراته.

رسم خطوط حمراء أمام التهافت الإقليمي على الإستثمار في المعاناة اللبنانية، والعبور الى ساحته من خلال النوافذ الطائفيّة والمذهبيّة المشرّعة. وتمكين الجيش والقوى الأمنية الشرعيّة من الإمساك بمفاصل الأمن بحزم، إذ ليس بالقليل أن تمرّ تلك المظاهرات المليونيّة يومها، في قلب العاصمة بيروت، من دون «ضربة كف!».

وترمّمت عمليّة الإنصهار عندما بدأ ربيع سوريا، وإنقسم المجتمع عموديّاً، فريق ذهب يقدم الشاش، والدواء الأحمر، وحليب الأطفال للمعارضة، وآخر ذهب بسلاحه ليقاتل دفاعاً عن النظام. تدخّل المجتمع الدولي ثانية بقيادة الولايات المتحدة، وشهدت أروقة نيويورك تجمّعاً فريداً من نوعه، حمل عنوان «المجموعة الدوليّة الخاصة بدعم لبنان».

لم يحظَ أيّ بلد في العالم بمثل هذه الرعاية، وهذا الحدب. يكفي هذه المجموعة أنها إتخذت قراراً ملزماً عمّمته على اللبنانيين من خلال بعثاتها الناشطة في بيروت «السلم الأهلي خط أحمر»، ونقطة عالسطر. بزايد الطائفيّون. ينفعل المذهبيّون.

ترتفع الرايات الفئوية والطائفيّة والمذهبيّة تيّاهة في فضاء المناطق، والمربّعات الأمنية، والدويلات داخل الدولة، وتقع مواجهات، وحوادث دامية، ويحاصر القلق الكثير من الناس، في أماكن كثيرة، ويبقى الجيش الضمانة، ويبقى لبنان في «غرفة العناية الدوليّة الفائقة»، سلمه الأهلي خطّ أحمر، حتى إشعار آخر.

وتنطلق طاولة الحوار عمليّاً متزامنة مع حدثين ضاغطين، التمدّد الإيراني في الدول العربيّة إنطلاقاً من العراق الى سوريا، الى لبنان وصولاً الى اليمن… وتمدّد الإرهاب في المنطقة، وصولاً الى الحدود السوريّة – اللبنانية، وتوغّله نسبيّاً الى الداخل. لقد شهدت الساحة أحزمة ناسفة، وسيارات مفخّخة، وخلايا إرهابية ناشطة، لكنّ عمليات التطويق كانت سريعة وناجزة، ولولا العناية الدوليّة لكانت البراكين المشتعلة قد فجّرت البلد.

ويستمدّ الحوار قوّته في هذه المرحلة المفصلية من «ضعفين»، كما يقول ديبلوماسيّ متابع: الفراغ الرئاسي الذي فرَض على الدول الراعية تأمين الحدّ الأدنى من التوازن الداخلي، في ظلّ اللاتوازن الذي يضرب المؤسسات الرسميّة، والصيغة، والميثاق. والتغيير الديموغرافي الذي تشتدّ وطأته يوماً بعد يوم، وتترسخ قواعده. يعرف المجتمع الدولي مخاطر الأوزار التي يتحمّلها هذا البلد الفريد بتركيبته الإجتماعيّة.

ما يزيد عن مليون ونصف المليون نازح سوري يتكاثرون، يتفاعلون مع الواقع الجديد، ويتأقلمون شيئاً فشيئاً، لتبدأ في ما بعد مرحلة المطالب حتى يصبح الموقّت دائماً.

هذا فضلاً عن نصف مليون لاجئ فلسطيني غالبيتهم أبصرت النور في مخيمات لبنان، ولا تعرف عن فلسطين شيئاً سوى «الآن، الآن، وليس غداً… أجراس العودة فلتقرع»، لكن لم يبقَ من أجراس لا في فلسطين، ولا في المخيمات.

ويبقى للحوار رمزية كبرى، على رغم كل التحدّيات الوافدة، او المستَجلَبة من خلال التورط في أحداث سوريا، والعراق، والآن اليمن… الحوار يعني الحرص على لبنان وطن التنوّع الثقافي، والإعتراف بالآخر، وإحترام خصائصه. ويعني أيضاً أنّ الدول الكبرى لا تريد التفريط بهذا اللبنان، لا تريد تفتيته، ولو كان هناك من قرار أسود «لكنّا ترحمنا على 13 نيسان… من زمان؟!».