إستند العهد في انطلاقته إلى تقاطع سداسي قوامه 6 قوى حزبية رئيسية: على المستوى الشيعي: «حزب الله» وحركة «أمل»؛ على المستوى المسيحي: «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»؛ على المستوى السني: تيار «المستقبل»؛ على المستوى الدرزي: «الحزب التقدمي الإشتراكي».
الأقلّ حماسة للتسوية الرئاسية كان «الإشتراكي» و«أمل»، ولكنهما قررا منح العهد فرصة، خصوصاً انه انتخب والمصلحة الوطنية تستدعي ذلك، ما يعني انّ العهد بات يرتكز في حكمه على الأقوياء داخل كل الطوائف، وما يعني أيضا انّ انطلاقته تحظى بشبه إجماع، وما يعني في المحصلة انّ أمامه فرصة ذهبية لتحقيق أكبر قدر ممكن من الإنجازات في ظل شبه الإجماع القائم والتوافق السياسي والانتظام المؤسساتي والدينامية التي تَولّدت مع انتخابه وانتظارات الناس من العهد الجديد.
ولم يكن موفّقاً اعتبار حكومة العهد الأولى تبدأ بعد الانتخابات، وكأنّ الانتخابات ستكون كفيلة في تغيير المشهد السياسي والتوازنات القائمة والانطلاق بطبقة سياسية جديدة، فيما أكثر ما كان يمكن تحقيقه هو تفويض أكبر على المستوى المسيحي، لأنّ الوضع داخل البيئات الإسلامية كان مُرشّحاً أن يحافظ على تمثيله، ومن المستحيل ولادة «شهابية جديدة» عابرة للطوائف تستطيع ان تفرز على أساسها الوضع السياسي، وذلك لمجموعة أسباب وعوامل واعتبارات، ما يعني انّ المشهد السياسي لن يفرز على قاعدة أكثرية وأقلية سوى في حالة واحدة، وهي في حال قررت فئات وازنة خَوض الانتخابات ضد السلطة كما حصل مثلاً مع الحلف الثلاثي في العام ١٩٦٨، الأمر غير القائم، وبما انّ الانتخابات غير قادرة على صناعة وضع جديد، فهذا يعني انّ توازنات ما قبل الانتخابات ستكون كما بعدها مع بعض الاختراقات والتمايزات التي لا تؤثر في الصورة الإجمالية للوضع. وبالتالي، إزاء كلّ ذلك كان من الأفضل اعتبار انّ العهد يبدأ في 31 تشرين الثاني 2016، وليس مع الحكومة الأولى بعد الانتخابات.
أمّا بالنسبة إلى الرأي العام، فهناك مرحلة سياسية جديدة بدأت بعد فراغ رئاسي طويل وانقسامات عمودية ووعود كبرى بالتغيير. وبالتالي، لا يمكن ان يطلب منها ان تنتظر إلى ما بعد الانتخابات، فيما كان يفترض ضرب الحديد وهو حام، بمعنى إظهار انّ مرحلة ما بعد 31 تشرين الثاني تختلف جذرياً عمّا قبلها، فيما في الواقع شكّلت استمراراً لِما سبقها على مستوى انتظارات الناس، وكأنّ هناك من كان يعتقد انّ ما يمكن تحقيقه قبل الانتخابات سيؤول الفضل فيه الى كل الطبقة السياسية خلافاً لِما سيكون عليه الوضع بعد الانتخابات، حيث انّ كل إنجاز سيسجّل في خانة العهد فقط لا غير. وهذه النظرة، في حال كانت موجودة، غير دقيقة لسببين: السبب الأول يَتّصل بما وَرد أعلاه لجهة انّ الرهان على ولادة طبقة سياسية جديدة ليس في محله، والسبب الثاني انّ كل ما يتحقق في عهد معيّن يسجل في خانته.
وما تقدّم لا يعني انّ شيئاً لم يتحقق، بل على العكس من ذلك تماماً حيث نَعِمَ لبنان في عهد الرئيس عون باستقرار سياسي غير مسبوق منذ العام 2005، وتمّ إقرار قانون انتخاب غير مسبوق منذ إقرار اتفاق الطائف، وتمّت مقاربة الأمور ومعالجتها تحت قاعدة تنظيم الخلاف بعيداً عن التعطيل، الأمر الذي شكل بحد ذاته فرصة لتحقيق ما تَعذر تحقيقه في مرحلة سابقة، خصوصاً انّ اولوية الناس وفق كل استطلاعات الرأي حياتية بامتياز، من ماء وكهرباء إلى حل أزمة السير والنفايات والتلوث والوصول الى بيئة نظيفة وتوفير فرَص عمل والالتزام بالشفافية والنزاهة. ولم تتحقق، ويا للأسف، ايّ صدمة في هذه العناوين، علماً انّ هذا هو المجال الوحيد الذي كان يمكن تحقيق الاختراقات المطلوبة فيه في ظل العجز عن تحقيق اي شيء على صعيد السيادة، لارتباط هذا الجانب بالواقع الإقليمي.
وما يجدر قوله انه لم يحظى اي عهد بعد العام 2005 بقاعدة سداسية على غرار ما حَظي به العهد الحالي، وهذه القاعدة كانت كافية لوحدها بتوفير الغطاء الوطني للتوجّه الرئاسي الإصلاحي الجديد، ولكن ما حصل انه بدلاً من الاتّكاء على هذه الركائز فتح الوزير جبران باسيل حروبه عليها مداورة، فتارة مع حركة «أمل»، وطوراً مع الحزب «الإشتراكي»، وحيناً مع «القوات اللبنانية»، ولم يوَفّر «حزب الله» و»المستقبل» ولَو بشكل طفيف، فاهتَزّت الأرضية التي تشكل القاعدة الصلبة للمرحلة الجديدة، وانزلقَ الوضع الى الخلافات الداخلية بدلاً من ان يكون مُنصَبّاً على الاستفادة من الدينامية الرئاسية والقاعدة السداسية لتحقيق الإنجازات الوطنية.
وأمّا مَردّ ذلك فعائد إلى رهان خاطئ لا علاقة للعهد به، وهو انّ بإمكان أحدهم إزاحة الرئيس نبيه بري عن طريق العلاقة مع «حزب الله»، واستبدال النائب وليد جنبلاط بالنائب طلال ارسلان وبالحدّ الأدنى إضعافه بعد تحجيم حليفه بري، وإنهاء مفاعيل التفاهم مع «القوات» بالتخلّي عن الشراكة والثنائية لمصلحة أحادية سياسية، وفَرض سياسة أمر واقع على الرئيس الحريري.
ولكن كل تلك الحسابات اصطدمت بواقع انّ «حزب الله» ليس في وارد تَبدية تحالف على تحالف، مُظهراً انّ تحالفه مع الرئيس بري من طبيعة استراتيجية، ومُبدياً انزعاجه ولَو الضمني من السياسة المتّبَعة، كما انّ بري ليس حالة عابرة في المشهد السياسي بل مُتجذرة، والدخول في مواجهة معها يقوّيها لا يضعفها، فيما الانتخابات أكدت أحادية جنبلاط على الساحة الدرزية، ومناصفة «القوات» للتيار على رغم كل الظروف المساعدة لإضعافها وتحجيمها، وترسيم «المستقبل» لعلاقته مع المرحلة الجديدة خلافاً لِما كان عليه الوضع في بداياتها. ويخطئ كل من يعتبر انّ شعبية «التيار الوطني الحر» وتكتله النيابي كافيان لوحدهما بتدعيم المرحلة وتحصينها، من دون الحاجة إلى الركائز الخمس الباقية.
ولعلّ الهدف من كل ما تقدّم، القول انّ مواجهة أركان التسوية السداسية أخّرَت الوضع ولم تقدِّمه، فيما العبور الى تحقيق الإنجازات شَرطه الارتكاز على التقاطع السداسي، وأي محاولة لإضعاف مكوّن من مكوّناته ستكون ارتداداته على كل المرحلة السياسية. وللدلالة على قوة المشهد السياسي الداخلي، يكفي التوقّف أمام ثلاثة أمثلة معبّرة: المثل الأول انّ الخروج السوري من لبنان لم يبدِّل بواقع انّ القرار الاستراتيجي بقيَ خارج الدولة بفِعل الثنائية الشيعية، والمثل الثاني انّ قاعدة الوجود السوري في لبنان اهتَزّت بعد اصطدامها بالقاعدتين السنية والدرزية وفي ظل غياب اي قاعدة مسيحية لها، والمثل الثالث انّ 15 سنة وصاية لم تؤثر في شعبية «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» داخل الوسط المسيحي.
ويبقى انّ أحداً لا يستهدف العهد، وكل ما قيل ويقال على هذا المستوى هدفه التنَصّل من تفاهمات وإضعاف قوى محددة لأهداف لا علاقة لها بالعهد ومصلحته الاستراتيجية، فيما كل طرف سيشعر أنه مستهدف سيكون في موقع الدفاع عن نفسه. ولذلك، وبما انّ كل الناس تلتمس التغيير ولم تعد تحتمل الواقع الراهن، وبما انّ ما توافر للعهد لم يتوافر لغيره لجِهة تقاطع القوى السداسية حوله، وهي فرصة تاريخية تشكل بحد ذاتها إنجازاً للعهد كونها تقاطعت حوله وليس حول غيره، وبما انّ العنوان الأول لهذه القوى او معظمها هو مكافحة الفساد، وبما انّ الخلافات السياسية مع قوى أساسية تؤدي إلى تجميد الوضع وحَرفه عن الهدف الأساس، وبما انّ الظروف العامة مواتية للإقدام، وبما وبما وبما، فهل سيُصار إلى التأسيس على هذا الواقع من أجل انطلاقة واعدة وجديدة مع الحكومة العتيدة ترتكز على ما أفرزته الانتخابات من نتائج وتستقوي بالقوى السداسية، وليس بالاستقواء على البعض منها، من أجل تحقيق الإنجازات المطلوبة؟ وبالتالي، ثمّة فرصة تاريخية للبنان واللبنانيين والعهد، فهل سيتم التقاطها؟