«وينكر القتلة على القتيل (القتلى) الحقّ في حصانة، أو حرمة تستقوي شريعة ليست «شريعة» الحرب، أو الصراع القومي أو الديني، السياسي التاريخي والأمني العسكري. ويفترضون أنّ حكمهم المُبرم لا يُستأنف، ولا يجوز عرضه على نظر هيئة (أعلى) تتوسّل الى حكمها بطرائق أكثر دقّة من سابقاتها، وتشريعات أكثر إحاطة (مثل تعريف الجرائم ضد الإنسانية، والإبادة، وانتهاك حقوق الإنسان، والإرهاب، غداة الحرب العالمية ومذذاك)، وأوثقت بين القوانين المحلية والقوانين الدولية». (وضّاح شرارة – كتاب أيام القتل العادي)
ما هو واضح هو أنّ هاجس حماية حق الحياة ليس همّاً نظرياً في عالمنا الثالث، بل هو هاجس مشترك للكثيرين ممّن حملوا هم الإنسان كقيمة بحدّ ذاتها في مواجهة منطق استهوان الموت.
لقد ولد «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» بعد عشرات السنوات من الاجتهادات، بدأت في أواسط القرن التاسع عشر، وبنيت توصياته في معظمها على التجارب الإنسانية المؤلمة خلال الحروب. لا شك في أنّ المحرقة الإنسانية الكبرى في الحرب العالمية الثانية، كانت الدافع الأكبر لإطلاق هذا الإعلان، والذي أتى في 10 كانون الأول 1948 حين اعتمدته وأصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة.
أساسه هو «الاعتراف بالكرامة المتأصّلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية، وبحقوقهم الثابتة بالحرّية والعدل والسلام في العالم. لمّا كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا الى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني، وكانت غاية ما يرنو اليه عامة البشر، هو انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرّية القول والعقيدة، ويتحرّر من الفزع والفاقة. وقد أكّد الإعلان الالتزام بحقوق الإنسان الأساسية، وبكرامة الفرد وقدره بما للرجال والنساء من حقوق متساوية، وحزمت أمرها على أن تندفع بالرقيّ الاجتماعي قدماً، وأن ترفع مستوى الحياة في جوٍّ من الحرية أفسح».
وأتت المادة الثالثة لحقوق الإنسان كما يلي: «لكلّ فردٍ الحقّ في الحياة والحرّية وسلامة شخصه».
هذه المادة كانت للتأكيد على قدسية حياة الإنسان كفرد في مواجهة القرارات الجلفة والمستهترة، التي تتّخذها عادة «السلطة» في مسألة تدنيس هذه القدسية، من خلال قرارات الحرب والأثمان التي يمكن لهذه السلطة أن تهدرها من خسارة في أرواح أتباعها في سبيل تدعيم أو توسيع سلطتها.
لم تكن هذه الإشكالية مطروحة بشكل واضح في السابق. فقد كان موت الضحايا في الحرب تحصيلاً حاصلاً، كما هي المآسي الإنسانية الناتجة منها. كما كانت الحرب تُعتبر، قبل الكوارث الطبيعية والأوبئة، عوامل لا مردّ لها كالقضاء والقدر. وكانت قرارات الدخول في الحرب مرهونة برغبة السلطة، التي كانت تقيّم المسألة فقط من ناحية النصر والهزيمة، دون حسبان كم سيكلّف هذا النصر أو الهزيمة من حيوات. خسر العالم في الحرب العالمية الثانية أكثر من خمس وخمسين مليون بشري، وفي كثير من الأحيان في معارك عبثية، لم تغيّر شيئاً في نتائج الحرب. فهذه الحرب أصبحت في حكم المحسومة بعد انهيار الجبهة الشرقية بالنسبة لألمانيا في سنة 1943، والهزائم المتتابعة لليابان، التي انتهت عملياً بحصار كلّ الجزر اليابانية، ومع ذلك، فقد استمرّت الحرب لسنتين أخريين سقط فيها حوالى نصف الضحايا لتلك الحرب. وهذا الواقع كان من أهمّ الأسباب لتوعية البشرية على مسألة حق الحياة وعبثية الموت في الحروب العبثية.
ومع أنّ الإعلان الدولي لحقوق الإنسان كان قد أتى على يد الدول المنتصرة في الحرب، التي شكّلت لاحقاً نواة ما سمّي بالعالم الحرّ، ومن ثمّ شكّلت مع الدول المهزومة «كارتيل» الدول الصناعية، فإنّ احترام هذه «السلطات» لمبدأ حقّ الحياة للفرد، حتى لأتباعها لم يأتِ إلّا في أواسط السبعينات، حين نجحت الحركة المدنية في إجبار سلطة الولايات المتحدة الأميركية على قبول الهزيمة في حرب فيتنام، على أن تستمرّ في المكابرة بعد أن بلغت خسائرها أكثر من خمسين ألفاً، مقابل بضعة ملايين فيتنامي.
لقد فرضت نتائج هذه الحرب نمطاً جديداً في حساب السلطات في الدول الصناعية والديموقراطية، بحيث أصبح ضغط القوى المدنية هو «العائق» الأكبر في مواجهة النزق في اتخاذ قرار الحرب، بعد أن أصبح حقّ الفرد في الحياة يتنافس مع قدرة السلطة على استخدام حياة الناس في سبيل تدعيم سلطتها.
أما في العالم الثالث والعالم الشمولي والعالم العربي، فإنّ الزمن لم يتغيّر. فقد استمرّت ثقافة استهوان الموت هي السائدة في قرارات أصحاب السلطة في الحرب، واستمرّت الشعارات التي تُشرّع انتهاك حقوق الإنسان من أجل أهداف سلطوية، وهذه الشعارات ذاتها التي استُخدمت بِمكر مطلق باسم القومية العربية والاشتراكية، وفي أكثر من بلد عربي، انتهكت حقوق الإنسان العربي باسم الدين والجهاد والمنعة والحرّية. وفي النهاية بقي عالمنا يخوض حروبه بمنطق العالم القديم، وهو قدرته على حشد أكبر عدد من الأفراد المستعدّين للتخلّي عن حقّهم في الحياة طوعاً، أو لسلبهم حقّهم في الحياة قسراً، وذلك لعدم قدرتهم على الاحتجاج. كله في سبيل تدعيم سلطة المتسلّطين باسم الدين حيناً والقومية حيناً والاشتراكية في ما مضى.
الإشكالية المطروحة الآن في منطق الصراع القائم في المنطقة هو المواجهة بين قوة استهوان الموت والقدرة على تقديم قوافل الشهداء دون حساب أو محاسبة، وبين ضعف منطق اعتبار الحياة حقاً مقدساً، وإمكانية محاسبة السلطة التي تستهتر بهذا الحق.
وهذا يعني عملياً، أنّ تدعيم قوّة منظومة «استهوان الموت» يستدعي استمرار عدم قدرة المجتمع المدني على المحاسبة، وتدنّي قدرة المواطن الفرد على المشاركة في قرار السلطة، وهذا يعني أيضاً غياب الديموقراطية وانعدام النموّ، وهي من صفات المجتمعات القوية في مسألة قيمة الفرد، ولكن الضعيفة في قدرتها على «الحشد» في ساحات التضحية بالفرد في سبيل «منعة الأمة». المصيبة في كلّ ذلك هي أنّ بعض «القوى الثورية» في مجتمعاتنا لا تزال تقدّس هذا المنطق معتبرة أنّها صاحبة تجربة «رائدة» لا مثيل لها في التاريخ، لمجرد أنّها تعتمد «ايديولوجية» مختلفة، مما يبرّر لها استخدام الأساليب ذاتها لايديولوجيات بائدة، انتهت جميعها الى كارثة تاريخية كبرى.
لماذا هذا الكلام الآن؟
لأنّ الواضح اليوم، بخصوص التحشيد والتصعيد في المنطقة، فيما يسمّى المواجهة الأميركية – الإيرانية، هو أنّ المعركة محسومة بناءً على توازن غير موجود في القدرات بين المتواجهين الإفتراضيين على مختلف المستويات، حيث لا مجال للمقارنة. لكنّ المؤكّد هو أنّ إيران تستند في افتراضاتها على قدرتها على التضحية أولاً بآلاف المتطوّعين المأخوذين بالأساطير في لبنان وسورية والعراق واليمن، وثانياً بأعداد غير محدّدة من شعبها. وما يعنينا الآن هو أن يدرك شركاؤنا في الوطن عبثية الاستمرار بالتضحية من أجل الأساطير.