في العام 1988 سلّم الرئيس أمين الجميّل السلطة لحكومة إنتقالية برئاسة العماد ميشال عون لأن الإنتخابات الرئاسية لم تتمّ في موعدها الدستوري.
وعِوَضَ أن تسعى الحكومة الإنتقالية إلى تأمين انعقاد مجلس النواب لتأدية واجب انتخاب رئيس جديد، ولأن العماد عون لم يكن راضياً عن أي اسم يصل إلى رئاسة الجمهورية، شهّر بشرعية النواب الممدّد لهم وعطّل إجراء الإستحقاق الدستوري المؤتمن عليه…
أما اليوم وبحجّة أن المادة 53 من الدستور لم تلحظ مهلة لرئيس الجمهورية كي يدعو إلى استشارات التكليف المُلزمة، فقد نظّر له بعض مستشاريه أنه بوسعه المماطلة إلى ما شاء الله في الأمر معطلاً قيام السلطة الإجرائية في البلاد، وكأن الدستور يجب أن يلحظ لرئيس الجمهورية الذي أقسم اليمين على احترام الدستور مهلاً وإجراءات ردعية، مقابل كل صلاحية أعطته إياها قرابة 30 مادة من الدستور اللبناني. ولو حصل ذلك لكان أمراً معيباً ومحِطّاً من قدر الرئاسة الأولى.
ولنفترض أن رئيس الحكومة الذي ألزمه الدستور بالدعوة إلى اجتماعات دورية لمجلس الوزراء تقاعس عن هذا الواجب، بحجة أن لا تحديد لدورية الإجتماعات فهل سنسمح له تحت هذه الحجة الواهية تعطيل السلطة التنفيذية بأكملها؟؟ حتماً لا!
ولأن الدستور ليس كأي قانون آخر مثل قانون العقوبات أو قانون الموجبات والعقود لجهة التفصيل في أحكامه فقد قال العلامة الفرنسي ليون دوغي: “ليس للقانون الدستوري أي ضابط سوى حسن نيّة وأمانة الرجال الذين يطبقونه ولا سيما رئيس الجمهورية”.
وإذا ما عدنا إلى كثير من آراء العماد عون قبل انتخابه حول ضرورة تغيير دستور الطائف في أسسه ومرتكزاته، وإذا ما عرفنا أن مستشار فخامة الرئيس الأول في القضايا الدستورية هو الوزير سليم جريصاتي، الذي يجاهر بوجوب تغيير نصوص الدستور من أجل إعطاء صلاحيات إضافية لرئيس الجمهورية، وإلّا كان للأخير أن يلجأ إلى تكريس أعرافٍ يسميها جريصاتي بـ “الأعراف الرئاسية في ممارسة نظامنا البرلماني”، لعرفنا لماذا كل هذا التمادي في الخروج عن الدستور وانتهاكه وتمزيقه. وقد صدمنا معاليه في محاضرة ألقاها بتاريخ 2 تشرين الأول 2019 في الجامعة اليسوعية كرّر فيها ما كان سبق ومهّد له سنة 2011، في محاضرة في مركزعصام فارس لجهة حث رئيس الجمهورية صراحة على “الإقدام حيث الإتاحة”، أي الهجوم على الصلاحيات عبر الأعراف كلما سنحت الفرصة وكلما ضعف رئيس الحكومة، وما بيانات رؤساء الحكومات السابقين المتتالية إلا خير دليل على استشعارهم فظاعة هذه الهرطقات وهذا التمادي في التعبير لفظاً ومضموناً.
وآخر تجليات بدع معاليه استدعاء رئيس الجمهورية أشخاصاً يخضعهم لامتحان تأهيل وقبول، قبل أن يحدّد موعد الإستشارات المُلزمة. كما يَخضَعُ المرشح العتيد إلى شروط وإملاءات الوزير جبران باسيل المسبقة بحجة أن الأخير صاحب أكبر كتلة نيابية. هكذا يخرج رئيس الجمهورية عن دوره كحكم ليصبح متناغماً ومنسقاً مع صهره على حساب إرادة المجلس النيابي في الإستشارات المُلزمة. وهكذا يجري الإنقلاب على مبدأ وغاية هذه الإستشارات ألا وهو إخراجها من استنسابية رئيس الجمهورية أياً كان هذا الرئيس، لأن الحكومة تحيا في النظام البرلماني بثقة وإرادة مجلس النواب وليس بإرادة أي جهة أخرى. فرئيس الجمهورية غير مسؤول سياسياً في النظام البرلماني ولا يحاسب إلا إذا خرق الدستور أو ارتكب خيانة عظمى.
ومن مآثر الوزير جريصاتي رسالة رئيس الجمهورية الأخيرة إلى مجلس النواب للسؤال عن تفسير المادة 95 من الدستور بهدف تغطية رفض الرئيس توقيع مراسيم تعيين الفائزين بمبارايات مجلس الخدمة المدنية. وقد قام الوزير بتضمين الرسالة – السؤال قراءته للمادة 95 التي تخلص إلى أن لا تعيينات على أساس الكفاءة إذا لم يسلّم الشريك المسلم بإلغاء الطائفية وليس فقط بإلغاء الطائفية السياسية وبالتالي الموافقة على علمنة الدولة… لذلك حسناً فعل دولة الرئيس ايلي فرزلي فتدارك الموضوع مع رئيس مجلس النواب في تأجيل تلاوة الرسالة، خشية أن تخذل أكثرية النواب رئيس البلاد. هذا مع العلم أن لا صلاحية للنواب في تفسير مواد الدستور بل يمكنهم فقط تعديل هذه المواد وفق آليات دستورية معقّدة…
كذلك قام معالي الوزير في أيلول 2018 بالإجتهاد عبر دراسة، أن على الرئيس المكلّف ألا يتجاوز “المهلة المعقولة” في التشكيل تحت طائلة تدخل رئيس الجمهورية واتخاذ إجراءات تكسر جمود التأليف… في حين كانت تنهمر على الرئيس المكلّف “الشروط والمعايير” من قبل رئيس الجمهورية والوزير باسيل مؤخرةً ولادة الحكومة ومعتديةً على صلاحيات الرئيس المكلّف!
نعم انها عيّنة من الآراء التي تشي بحقد دفين أصبح معلناً على دستور الطائف ومحاولة ليّ عنقه حتى لو أدى ذلك إلى خراب الوطن.
في هذه الأثناء يرتاح “حزب الله” للمشهد فهناك من يقوّض عنه الدستور تمهيداً لكتابة دستور آخر يجعله المسيطر الأول على مفاصل الدولة.
لكل ما تقدّم أدعو الغيارى على لبنان وخاصةً البطريركية المارونية إلى تدارك الأمور، عبر التمني الملحّ على فخامته الاستئناس بكبار الحقوقيين الدستوريين من الطائفة المارونية الكريمة لما فيه مجد لبنان.