الازمة السياسية المتواصلة، ومنها الشغور الرئاسي، وبمعزل عن اسبابها المتعددة، تطرح اشكالية محورها الرئاسة والزعامة في السياسة اللبنانية منذ الاستقلال الى اليوم.
لمرات عديدة جاء الى رئاسة الحكومة رشيد كرامي وصائب سلام، بعد رياض الصلح الذي شكل حالة استثنائية في زمن الاستقلال، وهو الآتي الى السياسة اللبنانية من الداخل العربي. مقولة “لا للشرق ولا للغرب” في 1943 تعطلت بعدما تبنت سوريا ومصر عروبة اكثر راديكالية من عروبة الجيل الاول وبعد نشوء دولة اسرائيل. وسرعان ما انخرطت البيئة السياسية السنية، قادة وجمهورا، في التوجهات القومية، الناصرية بداية، وبعد حرب 1967 في الحالة التي مثلتها المنظمات الفلسطينية. زعامة رؤساء الحكومة كانت ذات جذور محلية في بعدها اللبناني وقومية في بعدها العربي. وبرزت شخصيات عديدة في رئاسة الحكومة، منها عبدالله اليافي وسامي الصلح، وحسين العويني، ولاحقا سليم الحص وشفيق الوزان. ولم يستطع نائب طرابلس امين الحافظ أن يخترق جدار “نادي رؤساء الحكومة” في 1973، فجاء تقي الدين الصلح رئيسا “لحكومة كل لبنان” ورشيد الصلح عشية اندلاع الحرب.
في الطائفة الشيعية مسار آخر، شديد الاختلاف. فالزعامة حتى السبعينات جاءت من العائلات السياسية البارزة في الجنوب والبقاع، ومنها رؤساء مجلس نواب تلك الحقبة، احمد وكامل الاسعد، وصبري حماده وعادل عسيران. لم تتبدل المعادلة السياسية داخل الطائفة الشيعية الا مع الامام موسى الصدر وحركة التغيير التي اطلقها في الشأنين الديني (المجلس الشيعي الاعلى) والسياسي مع تأسيس حركة امل. في مطلع الثمانينات برز “حزب الله” من خارج السياق السياسي القائم وسرعان ما تحول المنافس الاول لحركة امل. وفي تلك المرحلة انتخب حسين الحسيني، رئيس حركة امل في زمن انطلاقتها مع الامام الصدر، رئيسا لمجلس النواب وفي 1992 الرئيس نبيه بري. التحولات داخل الطائفة الشيعية في السنوات الاخيرة، لم تشهد الطوائف الاخرى مثيلا لها. فمن طرح الامام الصدر المرتكز الى مقولة التصدي للحرمان في اطار الدولة الى الطرح العقائدي والديني المتأثر بإيران الاسلامية الذي يمثله “حزب الله”، تحولات عميقة في فترة زمنية قصيرة طبعت البيئة الاجتماعية والسياسية بطابعها.
التحول المشابه في تداعياته وليس في شكله او مضمونه مثّله رفيق الحريري داخل الطائفة السنية، وهو الآتي من عالم رجال الاعمال في المملكة العربية السعودية وصاحب طموحات سياسية واقتصادية تجاوزت حدود لبنان. انها حالة غير تقليدية، نيوليبرالية اقتصادية في زمن العولمة والدولة التابعة في لبنان. زعامة الحريري تثبتت بعد رئاسة الحكومة وشهدت زخما لافتا بعد اغتياله، فالرئيس الشهيد ازداد نفوذ التيار السياسي الذي يحمل اسمه بقيادة سعد الحريري الذي حل رئيسا للحكومة بعد الرئيس فؤاد السنيوره.
اما لدى الموارنة، وما يمثلون على المستوى المسيحي، فالزعامة والرئاسة متداخلتان ومسارهما مختلف. الزعامة داخلية المنشأ والرئاسة المتحولة الى زعامة ارتبطت بالشخص المعني. ففي عهد الانتداب دخل اميل اده وبشاره الخوري السياسة من باب الكفاءة المهنية، لا الوراثة السياسية، واقاما زعامة بعد الرئاسة في اطار “الحزبية” الدستورية والكتلوية. وهكذا كان دخول كميل شمعون الذي اصبح زعيما بعد الرئاسة واسس حزب الوطنيين الاحرار الذي جمع بين الحزب والتيار السياسي المرتبط بشخصه.
نُخَب سياسية اخرى برزت داخل الاحزاب وخارجها ولم تصل الى الرئاسة، ابرزها ريمون اده، عميد حزب الكتلة الوطنية، والشيخ بيار الجميل، مؤسس حزب الكتائب اللبنانية. فؤاد شهاب سلك طريقا مختلفا من قيادة الجيش الى الرئاسة بعد ازمة 1958 ومن ثم الى تيار سياسي ترك بصماته الاصلاحية ولم يوظفه لاقامة زعامة بل لاكمال المسيرة التي بدأها، فكان شارل حلو، الآتي من الديبلوماسية والصحافة، خيارا شهابيا للرئاسة، ولم يحمل معه مشروع زعامة لا قبل الرئاسة ولا بعدها. وفي الخط السياسي نفسه جاء الياس سركيس الى الرئاسة في اوضاع بالغة التعقيد بعد عام على اندلاع الحرب. اما سليمان فرنجية، الزعيم الزغرتاوي، فرئاسته في 1970 كانت مفصلية بعد فوزه بفارق صوت واحد على المرشح الشهابي الياس سركيس، وهو الصوت الذي انهى النفوذ الشهابي في السلطة، لا سيما “المكتب الثاني”. في سنوات الحرب شكل انتخاب بشير الجميل رئيسا شرخا كبيرا في ظل الاحتلال الاسرائيلي وبعد اغتياله انتخب شقيقه امين الجميل. ولم تسلم الرئاسة الاولى من متاريس الحرب، فتعطل انتخاب رئيس جديد وتم تعيين قائد الجيش العماد ميشال عون في الربع الساعة الأخيرة من عهد الرئيس امين الجميل على رأس حكومة انتقالية.
في مرحلة ما بعد الحرب وبعد اقرار اتفاق الطائف، جاء الى الرئاسة الاولى رينيه معوض، السياسي المخضرم الذي قضى اغتيالا بعد ايام على انتخابه. وجاء بعده الياس الهراوي بدعم سوري، تبعه اميل لحود. الرئيس الهراوي لم يتحول زعيما في الوسط المسيحي ولم يكن ثمة امكانية لذلك بعدما أمن الغطاء السياسي لانهاء الحركة الشعبية المطالبة بانسحاب الجيش السوري التي اطلقها العماد عون. والرئيس لحود، بعد انتهاء عهده الرئاسي، لم يسع الى زعامة.قائد الجيش ميشال سليمان اتى الى الرئاسة بعد ازمة داخلية حادة استوجبت تسوية متكاملة في الدوحة، وبعد ست سنوات خرج من الرئاسة بمشروع زعامة قيد التكوين. وحده العماد عون من القادة الموارنة انطلق من حركة شعبية واسعة في زمن رئاسته للحكومة وعاد من المنفى القسري وسجل في انتخابات 2005 فوزا لم يحققه “الحلف الثلاثي” الذي جمع اقطاب الموارنة الثلاثة في انتخابات 1968. “التسونامي” العوني شكل حالة استثنائية في الوسط المسيحي، تبعه “تسونامي” سياسي لا يقل وقعا وتأثيرا، تمثل بالتحالف مع “حزب الله” في 2006.
انها تحولات لا تقل اهمية عن تلك التي اطلقها رفيق الحريري والامام الصدر، كل في بيئته السياسية، وكمال جنبلاط، زعيم اليسار العابر للطوائف في النصف الاول من سبعينات القرن الماضي. التيار العوني، كما التيار الشمعوني في مراحل سابقة، شكل رافعة للواقع المسيحي بعد استهداف مبرمج طوال خمسة عشر عاما لم يوفر أياً من القوى السياسية المسيحية، المؤيدة والمعارضة لاتفاق الطائف. فاذا كانت الشهابية تجربة اصلاحية لمؤسسات الدولة والجنبلاطية تيارا وطنيا تغييريا والحريرية رافعة اساسية في الوسط السني، كما حركة الامام الصدر في الوسط الشيعي، فإن التيار العوني يشكل حالة استنهاض في الوسط المسيحي لتستقيم توازنات الشراكة الفاعلة في اطار عيش مشترك جامع.
اما الرئاسة الاولى، فدرجت العادة منذ 1990 ان يكون الرئيس تابعا لاطراف الخارج او الداخل، وهذا الواقع بات مرفوضا اليوم من الاقطاب المسيحية جميعها. في 2005 لم يكن العماد عون متحالفا مع اي طرف سياسي ولم يكن في السلطة، وجرى استبعاده وحده من حكومة ضمّت القوى السياسية جميعها في 8 و 14 آذار. وثمة من لا يزال يراهن على تكرار هذا النهج اليوم فتأتي الرئاسة الاولى منفصلة عن الزعامة، او رئاسة لحساب زعامة اخرى، محلية او خارجية. هذا الزمن ولى ومعه ظروفه وادواته.