ليس عند اللبنانيين فائض من الوقت للاهتمام بما يخرج عن نطاق معركة الرئاسة التي استهلكت، حتى هذه اللحظة، ثلث المدة الدستورية لأي رئيس قد يتم العثور عليه في يوم، في شهر، في سنة… علماً بأن همومهم المعيشية، مع افتتاح السنة المدرسية، بأثقال الأقساط وأثمان الكتب وكلفة النقل، تشغلهم عن أية مسألة أخرى، بما في ذلك القصر الجمهوري الفارغ من رئيس للدولة.
هل من الضروري التذكير بأنها ليست أول مرة يشغر فيها هذا القصر، بل لعلها الثالثة، بل الرابعة… من دون أن تهتز أجفان الطبقة السياسية في البلاد التي تواصل عبثها بقضايا الحكم ومصائر الناس لأن لديها اهتمامات أخطر!
وبالطبع، فليس بين هذه الاهتمامات مثلاً، حقيقة أن نهر الليطاني قد تحوّل من مصدر للخير إلى بؤرة سرطانية تهدد الناس، رجالاً ونساءً وأطفالاً، في حياتهم، ولا من يهتم بإنقاذهم من هذا الخطر الداهم، ولو بعد حين..
ثم إن اللبنانيين يعرفون، بالتجربة المرّة، أن مسألة الرئاسة أخطر من أن تُترك لنوابهم الأشاوس الذين تحملهم المقادير إلى المجلس النيابي الذي يغلق أبوابه عليهم، ويمنع إعادة فتحها، للتستير على فضائح اختيارهم، ومن ثم على مصائب امتناعهم عن القيام بواجبهم في التشريع… ولذلك أسباب مفهومة، أبرزها أنهم ليسوا من الفقهاء، ثم إن هذه المهمة أثقل من أن ينهضوا بها حتى لو رغبوا،
ولكن السؤال الذي يشغل الرعايا هو: هل يمكن، ولو لمرة، أن يكون «الرئيس الأول» صناعة محلية، أي بلا كلمة سر، سواء بالإنكليزية، وهي المفضلة، أو بالعربية، التي توجبها الضرورة، سورية بالأساس وسعودية بالاستطراد، أو الفرنسية، التي تفرضها اللياقة والذكريات التاريخية؟!
فأما الأشقاء السوريون فغارقون في دمائهم وأحزانهم على مدن التاريخ والحضارة الأولى التي تتهاوى أمام عيونهم فيدفن ركامها الأطفال والنساء والشيوخ، بغير وداع، لتسد أبواب الأمل بحل أو بتسوية، أو حتى بوقف مفتوح لإطلاق النار… بينما يتزايد عدد «الفصائل المقاتلة» بالشعار الإسلامي غالباً، ويتعاظم تجهيزها وتسليحها بأسباب القتل الجماعي، من صواريخ ومدافع ميدان ودبابات، حتى ليكفي لاستيلاد جيش لدولة قوية!
وأما الأشقاء في المملكة المذهّبة ومعها إمارات الغاز والنفط في الخليج العربي فهمومهم ثقيلة جداً، لأن المناكيد الصناديد من فقراء اليمن، الذي كان سعيداً ذات يوم مضى وانقضى ولن يعود، قد شنّوا عليها جميعاً حرباً مدمّرة بأنواع الأسلحة كافة، براً وبحراً وجواً، وأمطروا عواصمها في الرياض وأبو ظبي والدوحة، بصواريخ طائراتهم، وعطلوا صادرات النفط والغاز بالإغارة على المنابع والناقلات الجبارة، حتى كادوا يتسببون بإفلاسها. وها هي الرياض التي كانت تتباهى بالذهبين الأسود (النفط) والأبيض (الحج) تلجأ إلى التقشف وتحسم من رواتب موظفيها، بمن فيهم الوزراء، (أما الأمراء فهم محصنون، كما تعلمون..) ما يدعم الخزينة المتهالكة من أثقال الحروب التي تخوضها بالسلاح في سوريا واليمن، وبالاقتصاد في لبنان (والعراق..) وجهات أخرى..
على هذا فإن اللبنانيين سيجدون أنفسهم مجبرين على تحمل مسؤولياتهم في اختيار رئيس جديد لدولتهم، بعد عامين طويلين من الفراغ في سدة الرئاسة وتفريغ الخزينة وتثقيل القروض وتبذير الهبات التي كانت قد قدمت كمكرمات ملكية أو أميرية.
إنها مهمة شاقة تعوّد «القادة» أن يتخففوا منها بفضل «دول الرعاية» عربياً وأميركياً.. لكن مختلف العواصم أقفلت أبوابها، وامتنع سفراؤها عن الهمس بكلمة السر التي تجعل من صاحب الحظ رئيساً للجمهورية بالديموقراطية المباشرة، ولو أغضبت العديد ممن كانوا يفترضون أنهم الأقرب والأخلص والأطوع…
في الصالونات من بدأ يعلن الاسم السري جهاراً،
وفي دوائر القرار من أراح نفسه من هذا العبء الذي يهرب منه القادة والسياسيون المحنكون وكذلك الطارئون على العمل السياسي من أهل المال أو الخبرة أو كليهما معاً من حمله..
على هذا لم يتبق إلا الله، سبحانه وتعالى، فليتوكل عليه المؤمنون!
ولن يكون أول رئيس تستولد معارضته من قبل أن يتولى المنصب المفخّم!