Site icon IMLebanon

رئاسة الحكومة وثقل الزعامة الآحادية

 

يبدو أنّ رئيس الجمهورية وحزب الله قد ثمّنا عالياً التنازل عن الخط 29 واعتقدا أنّ حسابات الحقل الأميركي ستخضع لحسابات البيدر اللبناني، وربما أيقنا خطأً أنّ هذا التنازل قد يشكّل الممر المتاح لطرح مستقبل الجمهورية بعد شهر تشرين الأول/ أكتوبر المقبل والإطمئنان الى تمديد العمل بخارطة النفوذ القائمة بفسادها وأدواتها.

لقد لخصت المقابلة التي أجرتها قناة الحرّة مع الموفد الأميركي آموس هوكشتاين السقف والمنهجية اللتين تتعامل بهما الولايات المتّحدة الأميركية مع مسألة ترسيم الحدود البحرية اللبنانية. الموفد الأميركي اعتبر « أنّ أمتن الملفات هو ما يمكن أن ينجح وأنّ الحل الناجح يقتضي الإقلاع عن التفكير بامتلاك أفضل قضية قانونية، فمصدر القوة في التفاوض ليس بما يمتلكه المفاوض من قرائن تثبت حقه ولا في امتلاك الموقع الأفضل للقول أنه الأكثر أحقيّة. فامتلاك الحق أحياناً يفتقر للقدرة على إثباته أو إظهاره». وأضاف:«ثمّة طرفان ويجب التوصّل الى شيء ما، فبدلاً من التركيز على ما هو حق مقابل الآخر، يجب التركيز على الطاقة التي يجب بذلها وماهية الأفكار الخلاقة التي يمكننا أن نتفق عليها، وعلى كلّ طرف أن يدرك أنه ربما لن يحصل على ما يريد ولكنه سيحصل على ما هو أكثر بكثير مما لديه الآن وهو في حالة لبنان لا شيء.»
بهذه العبارات قفز الموفد الأميركي فوق مناورة التفاوض اللبنانية التي ابتدأت بالإرتباك عندما شارفت سفينة الحفر على الوصول الى منطقة النزاع البحرية، واستُكملت بالصراخ لاستحضار الوسيط الأميركي بعد أن أسقط رئيس الجمهورية الخط 29 وأثنى على ذلك الأمين العام لحزب الله، وليُتبع ذلك بموقف من المثلث الرئاسي عبّر عنه شفهياً رئيس الجمهورية بمعادلة قانا مقابل كاريش، وليعمّ الصمت بعد ذلك ويغيب معه أي جديد عن تحركات الوسيط الأميركي.
بهذا الموقف عُلق التفاوض حول الحدود البحرية الى أجلّ غير مسمّى وسقط الملف الذي اعتبره الرئيس عون معبراً نحو صياغة مرحلة سياسية جديدة تحظى برعاية أميركية، كما اعتبره حزب الله أحد الرهانات الذي ستتلقفه البرغماتية الأميركية بالرغم من المعطيات الإقليمية والدولية المستجدّة. ذهب التفاوض الذي لم يكن ربط أجندة الإستشارات النيابية الملزمة به محض صدفة، لتصبح مسألة تشكيل الحكومة هي العنوان المتقدّم الذي سيؤمّن استمرار الحال بعد الشغور المتوقّع، وبذلك تصدّرت إشكالية إعادة السلطة من الوكلاء الى الصقور وضبط إيقاع الفراغ الرئاسي واجهة الإهتمام السياسي، وأصبحت تسميّة الرئيس المكلّف وضمان خضوعه للتقييدات المطلوبة مسألة لا تقبل الخطأ، ودائماً تحت شعار حكومة تمثّل الجميع، وإلا فالإستمرار بالحكومة الحالية هو الأجدى.
لم تعنِ حكومات الوحدة الوطنية التي كُرّست منذ اتّفاق الدوحة سوى تعبيراً قهرياً عن ميزان قوى سياسي كرّسه السلاح بالرغم من نتائج الإنتخابات، بمعنى إخضاع رئيس الحكومة قبل التسميّة وبعدها لتسويات تفقده السيطرة على مؤسسة مجلس الوزراء. إرتضى رؤساء الحكومات الرضوخ تحت مسميّات أثبتت عقمها حتى أصبح هذا الرضوخ صفة ملازمة لمن تستقر التسميّة عليه، فلا تسميّة دون الرضوخ للأمر الواقع. تصنيف الحقائب الوزارية بين سيادية وخدماتية وأخرى دون لون وتوزيعها على المذاهب الذي فُرض على رؤساء الحكومات أضحى تعبيراً فاجراً عن ميثاقية مدّعاة تحت طائلة التهديد بالخروج من الحكومات، وغطاءً لسرقة المال العام وتحويله الى مال سياسي ووضع هذه الوزارات في خدمة المصالح الحزبية والطائفية، مما أذاب السلطة التنفيذية وجرّدها من دورها واستقلاليتها المكرّسين بالدستور والتصق إسم كلّ من تولاها بنوع محدّد من التنازلات.

إنّ الضياع غير المألوف والإيجابي في الوقت عيّنه الذي تعيشه الكتل النيابية، لا سيما كتلتيّ أمل وحزب الله وكتلة التيار الوطني الحر، قبيل البدء بالإستشارات النيابية مردّه الى غياب من يمكن إعطاؤه دور رئيس الكتلة السنية الأكبر لإدخاله في مسار اإابتزاز المعروف تمهيداً لإخضاعه. هذا بالإضافة أنّ إيجابية عدم وجود ما يسمّى بالزعامة السنيّة أدى الى تحرر الكتل السيادية من التزامات فرضتها ظروف وضرورات تجاوزتها التغييرات الإنتخابية الأخيرة، كما أفسح في المجال أمام بروز ظاهرة التسميّة على أساس برنامج عمل وليس المواصفات الشخصية التي لم تكن يوماً سوى مدخلاً للخضوع والتخلي عن الصلاحيات.

إنّ استعادة موقع رئاسة الحكومة لصلاحياته الدستورية لا يمكن أن يطرح من باب استعادة الطائفة السنيّة لدورها، ولا بإستدراج رئاسة الحكومة الى المعترك الطائفي واستثمار تعدّديتها السياسية. وبالمقابل فإنّ المطلوب وبشكل ملحّ أن يتقدّم من لديهم رؤية لإدارة الدولة بالإعلان عن برامجهم الى العلن ليتمّ اختيار أحدهم على أساسها، فالتسميّة مسؤولية مُلزمة لمن تقدّم لها وليس لمن قُدّمت له. هذا ما يحرر رئيس الحكومة بعد تسميّته من أيّة مساومات وما يلزمه في الوقت عيّنه بما التزم به.
إنّ تحرر رئاسة الحكومة من ثقل الزعامة السنيّة الآحادية سيعطيها بُعدها الوطني والعربي، وقد يكون المقدّمة لتحرير باقي الرئاسات من عباءات الطوائف.

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات