في سياق معالجة القضيّة اللبنانية عامة، ومسألة الشغور في رئاسة الجمهوريّة خاصة، دعا غبطة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي رؤساء الطوائف المسيحيّة في لبنان إلى قمّة روحيّة في بكركي. عُقدت القمّة لرؤساء الطوائف المسيحية وممثليهم يوم الأربعاء، في الرابع من شباط الجاري 2023، وصدر عن القمّة بيان اعتبر أن «واقع الشغور الرئاسي، غير مقبول أبداً، ومخالف لجوهر الدستور اللبناني ومرتكزات السيادة والاستقلال ومسؤولية النواب تجاه الشعب اللبناني» وطالب المجلس النيابي بالإسراع في القيام بواجبه الوطني وانتخاب رئيس للجمهوريّة. وأعلن الآباء في بيانهم، «ائتمان غبطة البطريرك الراعي على الاجتماع مع من يراه مناسباً تحقيقاً للمضمون أعلاه، بما في ذلك دعوة النواب المسيحيين إلى اللقاء في بكركي وحثّهم على المبادرة سوياً، مع النواب المسلمين، وفي أسرع وقت ممكن لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية».
هذه المبادرة فيها ثلاث مراحل:
أولاً: دعوة النوّاب المسيحيين (64 نائباً) من جانب البطريرك إلى الاجتماع في بكركي بتاريخ يحدّده البطريرك ويتوقّع أن تكون الردود في ثلاثة اتّجاهات: قبول الدعوة بالمطلق، أو قبولها بشرط… أو عدم القبول!
ثانياً: السعي في اجتماع النوّاب في بكركي للوصول إلى توافق حول شخصيّة مارونية معيّنة، بالإجماع أو بالأكثرية الموصوفة، وترشيحها لرئاسة الجمهوريّة.
ثالثاً: العمل في نطاق الميثاق الوطني والحياة المسيحية – الإسلامية المشتركة للتوافق مع النوّاب المسلمين في المجلس لتأييد هذا الخيار باعتباره خياراً وطنياً يلتزم بمندرجات وثيقة الوفاق الوطني.
السؤال الجوهري المطروح على ضمير غبطة البطريرك وضمائر النوّاب المسيحيين وكافة نوّاب المجلس وجميع اللبنانيين والمعنيين بوضع لبنان إقليمياً ودولياً هو التالي: ما هي المعايير التي يجب أن تعتمد لاختيار شخصيّة مارونيّة لمنصب رئاسة الجمهوريّة في هذه المرحلة الدقيقة والصعبة من تاريخ لبنان والمنطقة؟ وإلى أي مدى ستكون المراجع المسيحيّة ولا سيّما المارونية، بدءاً بغبطة البطريرك ومروراً بالمؤسسات المسيحية البرلمانية والسياسية قادرة بالمشاركة والتعاون مع أخواتها المؤسسات الإسلامية على تأكيد وتنفيذ خيارها في سياق العمليّة السياسية الديمقراطية وإيصال من ترى ضرورة إيصاله إلى هذا المنصب؟ إنّ الالتفاف حول الشخصية المختارة للرئاسة يعود إلى صدقية المعايير التي تمّ على أساسها هذا الخيار وهي معايير متعدّدة ومتنوّعة، إذ هي تتّصل بتاريخه السياسي، وبالمهمّات المطلوبة منه، وبالثقافة السياسية التي يختزنها، ومدى إيمانه بقيم روحية معيّنة من جانب، ومدى إيمانه بمبادئ تشكّل جزءاً من نظام فكريٍّ عقائديٍّ تؤمن به الجماعة التي ينتسب إليها وتلتزم بالعمل لإنجاحه من جانب آخر. على أن يبقى لبنان الوطن «والدولة – الحاجز» معطى مصيرياً في اختيار الشخص المطلوب لحكم هذا الوطن تأميناً للحق والعدل وخدمة للخير العام.
العناوين العامّة للمعايير
من الضروري الآن، ودائماً توضيح بعض هذه المعايير المطلوبة وعلى الأقل في عناوينها العامة ومن ثمّ في مضمونها العام وهو ما سنفعله من الأدنى إلى الأعلى:
– المعيار الشخصي القائم على تحقيق مصالح الجهة الفاعلة المؤيّدة له مع ما فيها من علاقات (عائلية) ومصالح (تنفيعيّة تجارية) وانتماءات (عرقية أو دينيّة أو مذهبيّة أو جغرافية /إقليمية)…
– المعيار السياسي ومحوره كان ولا يزال يختصر بأربع كلمات: لبنان: الإنسان والكيان والدستور والمؤسسات، مفهوماً والتزاماً وتطبيقاً!
– المعيار الثقافي: على اعتبار أنّ الثقافة هي التي توجّه التاريخ. وبمقدار ما يكون البلد صعباً في تركيبته وحياته السياسية، وهذا هو وضع لبنان، يكون المسؤول عنه مدعوّاً، بل مجبراً على امتلاك ثقافة غنية في حكم الداخل، والتعاطي الصحيح مع الخارج أي القوى الإقليمية والدولية التي للبنان علاقات خاصة بها. وهذا يفرض حكماً معرفة ووعياً بتأثير الجغرافيا والتاريخ على حياة الأمم.
– المعيار العقائدي. القائم على الإيمان بلبنان حقيقة جغرافية وتاريخية ضمن نظام فكري يبرّر ويؤكد الخصوصية اللبنانية ونهائية لبنان. إنه معيار مهمّ لأنّه يقدّم الخيار العقلاني على الخيارات العاطفيّة!
– المعيار العلمي الواقعي، وفيه العودة إلى كتب الجغرافيا السياسية وتصنيف الدول في العالم، حيث يصنّف لبنان بين الدول – الحاجزة Etat- Tampon: أي التي تشكّل حاجزاً بين دولتين إقليميتين تحيطان به. ولديهما مطامع ومطامح تاريخية في جوارهما، وهذا هو وضع لبنان عبر التاريخ: من زمن الصراع عليه بين دول وادي النيل ودول وادي الفرات إلى الصراع عليه حالياً بين إسرائيل وسوريا. أهميّة هذا المعيار أنه ليس اجتهاداً شخصياً لجهة لبنانية معيّنة ولا لعلماء الاجتماع والفكر السياسي والفلسفي بل هو حقيقة يفرضها الواقع الجغرافي – السياسي – التاريخي للبنان كما يفرض في الوقت عينه أسلوب معالجتها في تحييد البلد الحاجز أي لبنان بضمانة الأمم المتحدة.
في لبنان شخصيات تتمتّع بكفاءات عالية وثقافات ومهارات تسمح لها بتولّي منصب الرئاسة اللبنانية، على أنّه من الصعب إيجاد شخصيات تتمتع بكافة المعايير، ونجاحها في حال اختيارها، يرتبط بمدى اعتمادها على مساعدين أكفاء لها ليملأوا الفجوة في العمل الرئاسي. إنّهم مساعدون يعملون لتحقيق إنجازات عملية وليسوا مجرّد أزلام لدى السلطة. وفي هذه الحال يجدر بالمساعدين أن يتميّزوا بالإخلاص والالتزام الوطني والوعي وفن التّوقع (prévision).
على أنّ ما يواجه هذه التجربة في لبنان اليوم، ظاهرة طائفية ميليشيوية تضع يدها على مفاصل السلطة. وباختصار تام كان ميشال شيحا قد حذّر منذ أكثر من خمسين عاماً من أنّ كل محاولة تقوم بها طائفة – أية طائفة، للسيطرة على السلطة في لبنان ستؤدي حكماً إلى انهيار الدولة اللبنانية.
يمكن لاجتماع النوّاب الموارنة في بكركي وبعيداً عن كل حساسية شخصية أو سياسية أن يقدّم نموذجاً جديداً على أنّ الموارنة هم دعاة وبناة وحماة الديمقراطية في الشرق كما كانت تجربة رهبانهم عام 1695. فليمارسوا فعل الخيار الديمقراطي في بكركي وليريحوا البطريرك والموارنة واللبنانيين والعالم! أجل إنّ قرب موعد اجتماع النوّاب الموارنة في بكركي من موعد عيد مار مارون يعيد إلى الأذهان والعقول والقلوب والضمائر الحقيقة الأساسية حول الجماعة المارونية كما وضعناها في المانيفست الماروني وفيه أنّها «حركة مسيحية روحية ثقافية تأسيسية تجددية مشرقية أطلقها القديس مارون، وهي تجسِّد شوق الإنسان المطلق إلى الله وتوقه المطلق إلى الحرية ودوره الإنجيلّي الثقافي في خدمة محيطه ترقّياً وانفتاحاً، وعندها إنّ التنسّك هو الطريق الأقرب عمودياً إلى الله وإنّ أرض لبنان ذات معنى رمزيّ، إذ هي دون غيرها وقبل غيرها شكّلت أرض ميعاد المارونيّة ومعقل وجودها وهويّتها وحريّتها في آن». ليكن لنا رئيس مؤمن بثلاثة متفاعلة ومتكاملة: مارون والعمودية الإنسان والحرية لبنان والرمزية!
(*) باحث في الفكر الجيو سياسي