Site icon IMLebanon

للرئيس حق التسمية…ولكن

 

 

لَفَتَني منذ أيّام، إتّصال تلقّيته من أحدهم (من فريق رئيس الجمهورية) يستوضح فيه ما إذا كان لرئيس الجمهورية الحق المُطلَق في اختيار رئيس الحكومة، بعيدًا من نتائج الإستشارات المُلزِمة، خصوصاً أن فخامته ليس بصندوق بريد…

 

قبل الطائف، كان رئيس الجمهورية يملك السُلطة الإستنسابية في تَسمية رئيس الحكومة، كما حصل عندما كلّف الرئيس شارل حلو رئيس الحكومة عبدالله اليافي بينما كانت الأكثرية النيابية تؤيّد تكليف رشيد كرامي، كذلك فعل الرئيس سليمان فرنجية عندما كلّف أمين الحافظ في شهر نيسان عام/1973/ وأيضًا نورالدين الرفاعي عام/1975/.

 

وأحياناً، كانت الأزمات تفرض على رئيس الجمهورية تسمية رئيس حكومة لا رغبة له في تسميته، فكان يُسمّيه مُكرهًا لإخراج البلاد من الأزمة، وهذا ما حصل عندما كُلِّف رشيد كرامي تولّي رئاسة الحكومة ثلاث مرّات في الأعوام/1969/ على عهد الرئيس شارل حلو و/1975/على عهد الرئيس سليمان فرنجية و/1984/ على عهد الرئيس أمين الجميّل.

 

وبالتالي، كانت صلاحية رئيس الجمهورية، صلاحية إستنسابية مُطلقة، كما كان عليه الأمر في فرنسا، حيث كان يعتبر الدستور الفرنسي، أنّ حق تسمية رئيس الحكومة، يدخل ضمن الصلاحيات الشخصية واللصقية بالرئيس، يمارسها بحرّية مطلقة، سواء أكان هذا الأمر قد جاء متوافقًا مع إرادة المجلس النيابي أم غير متوافق.

 

ومِثال على ذلك، فقد رَفَضَ الرئيس الفرنسي J.Grévy تَسمية كلّ من Gambetta و Clemenceau، قائلاً: «طالما أنا رئيس الدولة فإنّ Clemenceau لن يكون وزيراً أبداً».

 

كذلك إعتبر العلاّمة J.Gicquel أنّ رئيس الجمهورية لدى إختياره رئيس الحكومة، فإنّه يملك صلاحية شبه إستنسابية «un pouvoir Quasi-discrétionnaire». أمّا بعد الطائف، فبَرَزَ خلاف حول تفسير الفقرة الثانية من أحكام المادة/53/ من الدستور، لجهة ما إذا كان رئيس الجمهورية مُلزَمًا بنتائج هذه الإستشارات، وما تؤول إليه.

 

وبالتالي، لو إعتبرنا رئيس الجمهورية غير مُلزَم بنتائج الإستشارات، فما الفائدة من إجرائها؟. وفي الوقت عينه، لو إعتبرنا رئيس الجمهورية مُلزَم بنتائج الإستشارات، فما الفائدة من التشاور مع رئيس مجلس النوّاب حول التسمية؟.

 

ولحلّ هذا الإشكال، يقتضي أوّلاً فَهم مَغزى الإستشارات ومضمونها، ودور رئيس الجمهورية في إدارتها وإستخلاص نتائجها.

 

فالإستشارات النيابية ليست مجرّد عملية حسابية، بل عملية سياسية مُعقّدة، تتداخل فيها إعتبارات كثيرة، أهّمها مدى التأييد الذي يتمتّع به المَنوي تكليفه داخل طائفته، والمهمة التي تنتظره بعد تشكيل الحكومة، وغيرها من العوامل.

 

وبالتالي، فإنّ الهامش الممنوح لرئيس الدولة، يقتضي توظيفه لمصلحة «المصلحة العُليا للبلاد» و»تحقيقًا للميثاقية»، علماً أنّ الفقرة «ي» من مقدّمة الدستور نصّت على أن «لا شرعية لأي سُلطة تُناقض ميثاق العيش المُشترك».

 

مما يُفيد، أنّ على رئيس الجمهورية أن يستخدم هذا الهامش، تحقيقًا لهذه الغاية. فلَيسَ بإمكانه عزل طائفة مثلاً، إستناداً إلى آلية حسابية جامدة، إنما عليه أن يوظّف هذا الهامش تحقيقًا للميثاقية.

 

فعلى أثر إستشهاد الرئيس رفيق الحريري، قدّم الرئيس عمر كرامي إستقالة حكومته. وبنتيجة الإستشارات النيابية توّزعت أصوات النوّاب بين النائبين نجيب ميقاتي وعبد الرحيم مراد، بل كاد هذا الأخير أن يحصل على عدد من الأصوات يفوق العدد الذي حصل عليه النائب ميقاتي، إلاّ أنّ تكليف مراد تشكيل الحكومة الجديدة في ذاك الظرف، كان من المؤكّد أنّه سيُثير موجة عارمة من الرفض والإستنكار لدى فريق كبير من اللبنانيين، وبخاصة لدى المكوّن السُنّي الذي كان في حالة شديدة من الغضب والألم.

 

وتدارُكاً لهذا المأزق ولإستبعاد تكليف النائب مراد بتشكيل الحكومة، إستخدم رئيس الدولة هذا الهامش، ونتيجة التشاور مع رئيس مجلس النوّاب، «جَيّر» الرئيس برّي أصوات كتلته للنائب ميقاتي، فَرَجَحَت كفّته وكُلّف بتشكيل الحكومة.

 

وبالخلاصة، رئيس الجمهورية يتمتّع بهامش في التسمية، ولا ينحصر دوره بالتأكيد على إحتساب الأصوات، لأنّه لو كان كذلك، لكان اعتُمِدَ مبدأ إنتخاب رئيس الحكومة من قِبل مجلس النوّاب، كما يجري في «ألمانيا»، وكما كان يجري في الجمهورية الفرنسية الرابعة.

 

وإستناداً إلى كامل ما تقدّم.

 

يقتضي اليوم على رئيس الجمهورية، المباشرة فورًا بالإستشارات المُلزمة، وتسمية رئيس الحكومة، بكلّ حِكمة ودراية، بالتشاور مع رئيس مجلس النوّاب، مع ضرورة توظيف الهامش الدستوري والممنوح له بمُقتضى المادة /53/ من الدستور، لإعلاء المصلحة العليا للبلاد، وتحقيقاً للميثاقية (الفقرة «ي» من مقدّمة الدستور) فلا يجوز أن يُكلَّف رئيسًا للحكومة، مَن يَرفضه الشارع السُنّي، حتى ولو جاءت نتائج الإستشارات خلاف ذلك. فلُبنان لا يقوم إلاّ على التوازنات، وموقع رئاسة الحكومة لا يمكن أن يمّثل إلاّ الشارع السُنّي، والطائفة السُنّية الكريمة.

 

ولا يجوز على الإطلاق إستخدام هذا الهامش لإستبعاد مَن يُحقق هذا التوازن، إنما يتوجّب إستخدامه بالشكل الإيجابي وليس السلبي، تحقيقًا للتمثيل الحقيقي، من جهة، ولتسهيل تكليف مَن بإمكانه إنقاذ الوطن، من جهة أُخرى.