مع اقتراب موعد الدخول في المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية، تتدفق «المواصفات» من كل حدب وصوب، كلٌ وفق معاييره وحساباته، في حين انّه عندما تحين لحظة الحقيقة فإنّ الرئيس المقبل سيكون نتاج خلطة او معادلة لا علاقة لها بكل ضجيج «سوق عكاظ».
يحاول رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ان يخوض معركة رئاسة الجمهورية من موقع الناخب الأساسي، لمعرفته باستحالة ان يكون مرشحاً حقيقياً في ظلّ موازين القوى السائدة داخل مجلس النواب وخارجه.
صحيح انّ جعجع يعتبر نفسه «مرشحاً طبيعياً» لكنه يعلم انّ انتخابه ليس أمراً طبيعياً في الظرف الراهن، لأنّ هناك عوامل موضوعية كثيرة تحول دون ذلك، وبالتالي فهو شخصياً كان أول من صرف النظر عن خيار ترشحه، داعياً النواب المعارضين إلى الاتفاق معه على إسم «سيادي واصلاحي».
وبناءً عليه، يكون جعجع قد انتقل إلى خط الدفاع الثاني في المعركة الرئاسية وقوامه منع وصول رئيس من 8 آذار والسعي إلى انتخاب رئيس تحدٍ لسياسات «حزب الله» ورئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، وفق ما صرّح به، رافضاً نظرية رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، بأنّ المرحلة الحالية تتطلب رئيساً تسووياً غير منحاز إلى هذا الفريق او ذاك.
لكن ما فات جعجع في هذا المجال، انّ العين بصيرة واليد المجلسية قصيرة، إذ انّ فوز المرشح الذي يطمح اليه يستوجب وجود مجلس نيابي من نوع آخر، تكون اكثرية الثلثين فيه لـ»القوات» وحلفائها، لتأمين النصاب ومن ثم انتخاب مرشح التحدّي.
أما تركيبة المجلس الحالي المكونة من مجموعة أقليات، فلا تسمح لمعراب بأكثر من امتلاك القدرة على منع عقد جلسة الانتخاب، من خلال تعطيل نصاب الثلثين، بالتعاون الإلزامي مع كتل أخرى، الّا انّها لا تستطيع ربطاً بالوقائع الحالية ان تأتي برئيس على قياس المواصفات التي حدّدتها.
على المستوى الداخلي، تبدو مجموعة الـ 67 نائباً الاعتراضية، التي يعوّل عليها جعجع لاستيلاد مرشح المواجهة، أقرب إلى بيت بمنازل كثيرة، إذ انّها قد تلتقي على مناهضة العهد وباسيل والحزب، غير انّها لا تملك بديلاً مشتركاً، ومن شبه المستحيل تقريباً ان تتفاهم على إسم للتحدّي، خصوصاً انّ بعض مكوناتها أعلن مبكراً عن رفضه هذا الطرح وذهب إلى نقيضه مثل جنبلاط الذي قرّر الانفتاح على «حزب الله» والتبشير برئيس غير مستفز، فيما يحرص عدد من النواب التغييريين على حماية تمايزاتهم وخصوصياتهم وعدم الذوبان في وعاء «القوات» مهما كلّف الامر، إما لأنّ بينهم من يأتي اصلاً من بيئة سياسية وثقافية مغايرة، وإما لأنّ تهديد جعجع بتخوين من يعطّل الاتفاق على اسم واحد قد استفز بعض هؤلاء النواب الذين يعتبرون انّهم اعضاء في المجلس النيابي وليس في «المجلس الحربي».
وحتى لو جرى التسليم جدلاً بأنّ معجزة حصلت، وانّ النواب الـ 67 تجاوزوا تناقضاتهم وتبايناتهم بقدرة قادر او سحر ساحر، فإنّ معسكر الـ61 نائباً المتراص يستطيع في المقابل أن يعطّل نصاب الثلثين إلى ما لا نهاية لمنع وصول رئيس تحدٍ، مهمّته المعلنة التصدّي لخيارات هذا المعسكر وتحجيم نفوذه السياسي، علماً انّ الائتلاف الذي يضمّ «حزب الله» وحلفاءه لن يتنازل بسهولة عن مكسب الإتيان برئيس من نسيجه، والذي تحقق عند انتخاب العماد ميشال عون، مع الإشارة الى انّه حتى انتخاب عون لم يكن ليتمّ أساساً لولا التوافق الذي حصل حوله، عبر دعم الرئيس سعد الحريري وجعجع له.
ومع تصنيف الخارج كأحد الناخبين المحوريين في الاستحقاق الرئاسي اللبناني، إن لم يكن الاقوى تأثيراً، فإنّ انتخاب رئيس تحدٍ يصبح عندها اكثر تعقيداً واستعصاء، ذلك أنّ التوازنات الاقليمية والدولية راهناً لا تسمح قطعاً بوصول مرشح من هذه الطينة إلى قصر بعبدا.
وهناك من يلفت إلى انّه إذا تفاهمت طهران وواشنطن حول الصيغة الجديدة للاتفاق النووي، كما يتوقع كثيرون، لا بدّ حينها من ان تسري مفاعيل هذا التفاهم على الساحة اللبنانية وإسم رئيس الجمهورية المقبل، وإذا فشلت مفاوضات فيينا، وهو احتمال مستبعد، فإنّ أصداء الإخفاق ستتردّد في أودية لبنان السحيقة، وسيكون من المتعذر مرور مرشح حاد يعكس انتصار محور على آخر.
إزاء هذه المعادلات الدقيقة، التي تمتد من «توازن الردع» في المجلس النيابي إلى المؤثرات الإقليمية والدولية، يبدو واضحاً انه ليست لأي طرف القدرة على فرض مرشح، وبالتالي لا بدّ من ان يحظى اي اسم بحدّ أدنى من التوافق العابر للاصطفافات حتى يمرّ إلى بعبدا، وإلّا فإنّ «فخامة الفراغ» سيكون وريث عون حتى إشعار آخر.