يكاد انتخاب رئيس جمهوريّة للبنان يكون الشغل الشاغل للبنانييّن ولغيرهم في هذه المرحلة… إنّها مرحلة مفصليّة يمرّ بها لبنان: الإنسان الدولة والكيان. إنها مرحلة امتحان شامل للأشخاص والموضوعات والسياسات والقوى السياسيّة والعقائديّة، وكافة مكوّنات المجتمع اللبناني في لبنان وبلاد الانتشار.
والخطأ الكبير الّذي يقع فيه اللبنانيون هو اهتمامهم المسبق بالنتيجة قبل أن يذكروا السبب. بمعنى آخر، إنهم يجتهدون ويتبارون في استخلاص الصفات والمهارات التي ينبغي أن يتحلّى بها رئيس الجمهوريّة المطلوب قبل أن يَتبيّنوا أو يُبيّنوا المهمّات التي على الرئيس أن يقوم بها: إنّهم يهتمّون بالنتيجة دون أن يتناولوا السبب. هذا يجعل مختلف الطروحات عرضة للنقد لدى الناس العاديين، فكيف به لدى المثقّفين والباحثين؟
إن لبنان الشعب والكيان والدولة يتعرّض في هذه المرحلة إلى جملة تحدّيات ويخوض من أجل ذلك عدّة معارك على أكثر من جبهة وفي أكثر من مجال.
1 – أولاها معركة الوجود: لبنان القائم حالياً هل سيبقى أم يزول، هل هو نهائي فلا يزول، أم مرحليّ ويزول؟ حول هذه الثنائيّة في البقاء والزوال عملت جهات سياسية وايديولوجيّة اما لتأكيد نهائية لبنان وإمّا لتأكيد زواله. وغير خافٍ أن دعاة لبنان البقاء، لبنان النهائي، هم المؤمنون ايديولوجياً بالوجود اللبناني العقائدي الدائم: بالأمّة اللبنانية. وإن دعاة زوال الوجود اللبناني هم أصحاب الايديولوجيّات الشاملة التي تجعل من لبنان جزءاً من أمّة أكبر: الأمّة السورية أو العربية أو الإسلاميّة بطبعاتها المختلفة!
2 – ثانيتها: معركة المصيريّة الكيانيّة: هل يستوفي لبنان مختلف عناصر الكيانيّة الدولاتية أم هو مجرّد كيان تمّت صياغته في ظروف معيّنة لظروف معيّنة وخدمة لأهداف معيّنة؟ فإذا زالت الأسباب لم يعد الكيان قائماً لأنه لم يعد هناك من سبب لبقائه، إنّه إذاً كيان مرحلي وليس كياناً نهائياً.
3 – ثالثتها: معركة استراتيجيّة تطرح أهداف الدولة وطريقة تحقيقها والوصول إليها وفي هذا تكون الدولة الحقيقيّة مطالبة بفرض وجودها في إطارها الجغرافي ومعها ولها القدرة على فرض الأمن والسلام على جميع المواطنين. لذا يكون من أولى مهامها منع المواطنين من اقتناء وحمل السلاح واستخدامه في المجال الحيوي للدولة. وعليها أن تستخدم كافة وسائل الاقناع لمنع مواطنيها من التسلّح لما في ذلك من مخاطر على السلم الأهلي والسلم العام. إن معالجة موضوع سلاح «حزب الله» في لبنان يدخل ضمن هذه المعادلة. وما هو مدى مشروعية هذا السلاح كعنصر من عناصر قوّة الدولة للدفاع ضد إسرائيل!
4 – رابعتها: معركة جيو- سياسية تطرح أزمة لبنان في محيطه العربي من جانب والفارسي من جانب آخر. كما تطرح مسألة علاقاته الدولية بدول الاقليم ودول العالم الكبرى ذات التأثير والاهتمام والمصلحة في لبنان. هذا الأمر يفترض لدى كل مسؤول لبناني معرفة تامّة وعميقة بالتاريخ: تاريخ لبنان وهذه الدول، وبالجغرافيا: جغرافيّة لبنان وعلاقتها بجغرافية هذه الدول وذلك انطلاقاً من القاعدة القائلة إن جغرافية الدّول تحدّد سياستها. وهنا يدخل دور لبنان على الصعيد العربيّ ودوره في نشوء الجامعة العربيّة، كذلك دوره العالميّ باعتباره من مؤسسي هيئة الأمم المتحدة.
5 – خامستها: معركة جيو- ثقافية ذلك أن لبنان، بفضل تنوّعه البشري والديني عُرف بنزعته الانفتاحية على ثقافات الأمم وثمّر هذه الثروة الثقافية في الداخل وفي الاقليم. لذا كان لبنان بشكل بارز ومؤكد، سبّاقاً إلى اكتساب العلوم والمعرفة ومن ثم نشرها في المحيط بواسطة المدارس والجامعات والإرساليات ووسائل الإعلام. من هنا تذكر الاجتهادات التي أطلقها اللبنانيّون في علوم الدين والفلسفة والفقه والإعلام. وهي مهمّة لا يمكن للبنان أن يتخلى عنها، كما لا يمكن لأيّ مسؤول لبناني أن يتجاهلها لأنّها تتصل بدور لبنان الريادي الانفتاحي – الثقافي في محيطه وفي العالم.
6 – سادستها: معركة اقتصادية – اجتماعية ذلك أن لبنان اعتمد منذ قيام الدولة نظام الاقتصاد الليبرالي الحرّ. وكان منظِّر ومؤدلج هذه النظرية المفكر اللبناني المعروف ميشال شيحا. ذلك أن التركيبة السوسيو- ثقافية للبنان تتناغم مع الليبرالية. فالمجتمع الحرّ بحاجة إلى اقتصاد حرّ. وهو ما يتناغم ودور لبنان التجاري المعروف منذ زمن الفينيقيّين. ولكن هذا المنحى لا يسمح بحصول الإحتكارات والفساد واستغلال ثروات البلاد في جيوبٍ خاصة ولدى بعض المسؤولين وذوي النفوذ. لأن ذلك سيؤدي حتماً الى انفجار اجتماعي وهو ما ينبغي تجنّبه بسياسة تقوم على العدالة في توزيع الثروة بين المواطنين.
7 – سابعتها: معركة الصيغة. وهي مسألة جوهرية في القضية اللبنانية. ونقصد بالصيغة: صيغة الحياة المشتركة المسيحية – الإسلامية في لبنان لأنّها تعبير حسّي عن واقع قائم، ولأنّها نظام حياة مشتركة ينبغي الحفاظ عليها باعتبارها احتراماً للقيَم الروحية في الدرجة الأولى وتعبيراً عن الأخوّة الانسانيّة كما نصّت عليها «وثيقة الأخوّة الإنسانية» بين قداسة البابا فرنسيس وفضيلة شيخ الأزهر أحمد الطيِّب.
***
بناءً على هذه المعارك – المهمّات الست وغيرها، كيف يمكننا الآن وبشكل أكثر وضوحاً ودقّة وواقعيّة أن ننظر الى اختيار رئيس جمهورية جديد للبنان يلبّي متطلبات هذه المعارك ويتمكّن من حفظ لبنان الدولة، الكيان، ومن إنقاذ شعبه من براثن الجوع والفاقة والضياع وعدم الثقة؛ بل أكثر من ذلك، كيف يمكن لرئيس أن يعيد لبنان الى سابق عهده من الإزدهار والبحبوحة والنهوض.
سنحاول الرد على هذه التساؤلات الكبرى في مقال لاحق، علَّنا نوفّق!
(*) باحث في الفكر الجيو سياسي