لم ينتظر اللبنانيون إنجاز الإستحقاق الرئاسي ضمن المهلة المكرّسة نصّاً في الدستور. قبيل إنتهاء الولاية بدا الرئيس المتأهب للرحيل وكأنه ينتظر إشارة من مكان ما للخروج، فيما كان اللبنانيون على اختلاف مواقفهم السياسية على يقين أنّ الفراغ أضحى قدراً لا مفرّ منه، بل هو الممر الدستوري الملزم لأي إستحقاق. الإستحقاق الرئاسي المتعثّر لم ولن يختلف عما سبقه من الإستحقاقات، بل هو محطة في مسار الخروج على الدستور واتّساع مروحة التدخل الخارجي الذي أصبح طقساً دائماً في الإعتداء على جمهورية الطائف.
الفارق بين نموذج إنتاج السلطة إبان الوصاية السورية التي تحكمت بتطبيق اتّفاق الطائف والنموذج المستحدث مع الوصاية الإيرانية التي انطلقت مع اتّفاق الدوحة هو أكثر من شكلي، بل هو تعبير عن الإستثمار في مرحلة ما بعد سقوط الجمهورية. إعتمدت الوصاية السورية على تسخير المؤسسات الدستورية للنيْل من الدستور «تعديلاً لمرة واحدة»، من خلال أكثرية نيابية أنتجتها أو سيطرت عليها ترغيباً أو ترهيباً، فأضحت «بدعة التمديد» نموذجاً في إنجاز الإستحقاقات وإجراءً دستورياً يُبقي للمجلس النيابي نذراً من ماء الوجه، فيما اعتمد حزب الله تقنية استباحة الدستور وإفراغ المؤسسات الدستورية بفرض نموذج المرشح الواحد الأحد و«التوافق القسري» عليه تحت طائلة استدامة الفراغ. وتحت رايّة النموذج أياه تحوّل الإستحقاق الرئاسي إلى معمودية رئاسية يعقبها بعد عناء صنوف ونماذج من حكومات مغتصبة الصلاحيات ومهددة بالإسقاط تحت عناوين ابتكرت في ظلّ ميزان قوى فرضه السلاح القابض على الجمهورية.
الرهان لم يعد على ما تبقى من هياكل صدئة فهذه لن تنتج خلاصاً للبنان وإن أنتجت رئيساً. التفكك والتحلل الذي تمدّد الى مفاصل الجمهورية لم يسقط المؤسسات بل أسقط معها قيّم الخدمة العامة برمّتها. تحوّلت السلطات بعد المؤسسات والإدارات الى هياكل مسطحة تفتقر إلى الهرمية والتراتبية في المسؤوليات وتعوزها الثقة والإحترام بين شاغليها قبل ثقة واحترام المواطنين بها. وما الإستباحات التي يعبّر عنها تداخل السلطات وتحوّل مجلس الوزراء الى سلطة خاوية تستجدي اتّفاقاً على إجتماعها وجدول أعمالها، وامتهان كرامة القضاء مع كلّ فشل في تكريس العدالة وإعادة الحقوق لأصحابها سوى دلائل على حالة الموت السريري التي تعيشها جمهورية تحتضر حيث لا يجدي حوار ولا توافقات سياسية ولا برامج إصلاحية.
الرهان كذلك لم يعد على عرابَي الجمهورية في دمشق وطهران على السواء. سقطت الوصاية السورية مع القرار 1559 وافتقدت دمشق رئتها اللبنانية، فيما ينوء نظامها تحت وطأة وصايات تركية وإيرانية وروسية يستمد منها استمراريته ولا يقوى على التمرّد عليها. وفيما تعيش سوريا إستباحات إسرائيلية شبه يومية لسيادتها يبحث النظام عبثاً عن شرعية افتقدها في الداخل وشرعيْتين عربية ودولية يستحيل عليه تلبية شروطهما.
زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين عبد الأمير اللهيان لبيروت لم تتمكن من التعمية على ما تعيشه الجمهورية الإسلامية من أزمات ليس على المستوى الملف النووي الذي غاب عن سُلَّم الأولويات الدولي بل على مستوى القدرة على تقديم نفسها كنموذج سياسي قابل للحياة يحظى بشرعية شعبية وبإحترام دولي، بعد التظاهرات العارمة التي تعيشها مدنها والتنديد الدولي باستخدام العنف وسيْل الإعدامات الذي لا يبدو أنه سيتوقف.
زيارة رأس الدبلوماسية الإيرانية لبيروت بالرغم من السريّة التي أُحيطت بها واللقاءات الفوقيّة المتاحة دائماً مع رموز الدولة لتعذر رفضها ودون أي اعتبار للأصول الدبلوماسية، بالإضافة الى الإجتماع بحلفاء طهران وما يشكّله من خرق للسيادة الوطنية واستباحة للقوانين اللبنانية لن تتمكن من إحداث أي تغيير في الستاتيكو القائم. إنّ محاولة الإستثمار في الزيارة وتحويلها الى عامل قوة واستكمالها بزيارة لسوريا والإجتماع بالرئيس الأسد للإيحاء بدور إقليمي مستمر لإيران ليست سوى محاولة بائسة لاستعراض القوة عن طريق التمثيل بما تبقّى من لبنان وسوريا كدولتين ذات سيادة.
ad
في يوم أمس وفي البهو المؤدي الى القاعة المعدّة لتقبّل التعازي بالرئيس حسين الحسيني وضعت آلاف النسخ من الدستور اللبناني. المشهديّة كانت معبرّة في التماهي بين الدستور والراحل الكبير الذي أخرجته الوصايتان من السلطة، مقابل مشهديّة أخرى لسلطة قائمة كرّستها سلطات الوصاية وخرج كلّ أركانها على الدستور.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات