يعتبر علم السياسة المجموعات السياسية أداة حزبية منظّمة تسمح للرأي العام بالمشاركة الفاعلة والمنتتجة في ممارسة الحياة السياسية في أي بلد يحترم القوانين ويُشرِّعْ كما يلزم. كما إنّ الحركة السياسية المبنيّة على الأُسُسْ الديمقراطية هي في طبيعة الحال جزء لا يتجزّأ من رأي عام حر بحيث يعمل هذا الأخير على تنفيذ خطط سياسية شاملة الإختصاصات هدفها الوصول إلى منظومة سياسية معتمدة وفقاً للأصول تُريح المواطنين كما تنص عليه القوانين المرعية الإجراء.
يؤكد معظم فقهاء الدستور والباحثين في الشؤون السياسية وبمختلف مندرجاتها أنّ وجود رأي عام مثقف واعٍ مقدام صاحب فكر إستراتيجي هو ضرورة ماسة لنشأة الأنظمة الديمقراطية ، وفعلياً الرأي العام هو الوسيلة الفعّالة التي يستلزمها النظام الديمقراطي، وهذه الممارسة السياسية الصادقة هي الباب الرئيس للمشاركة في الشؤون العامة وحتى ممارسة التأثير على مساراتها وإستطراداً لبعض الحالات في دول يُشبه وضعها الوضع اللبناني غالباً ما يؤثر الرأي العام على تحديد المسؤوليات بالنسبة إلى أداء الساسة سواء أكانوا نوّاب أو وزراء أو رؤساء أحزاب أو مسؤولين من الدرجة الأولى.
من المؤسف أنّ ساسة اليوم يُظهرون تخلفاً فاضحاً في أداء مهامهم وفي شتّى المجالات منها: السياسية – الأمنية – الاقتصادية – المالية – الاجتماعية – المعيشية – التربوية… وظهر إنحيازهم نحو الطائفية والمذهبية وتقوقعهم وإرتهانهم للخارج الذي يُحاول مقاربة أي أمر طارئ وتحديداً على مستوى الإستحقاق الرئاسي. الحياة السياسية في لبنان مُصادرة للأسف وتخضع لتجاذبات سياسية متشّعبة وهي السبب في تفّشي المرض السياسي الذي أهلك الجمهورية بكافة مؤسساتها الشرعية المدنية والعسكرية والدليل واقع الأمور القائمة في البلاد وفي حال استمرّت على هذا المنوال سيكون لبنان أمام أخطار داهمة منها على سبيل المثال التعمّد المقصود في إفراغ كل المؤسسات الشرعية المدنية – العسكرية – المالية – الاقتصادية من شاغليها القانونيين، وهذا أمر بات من المفترض التنّبُه له نظراً لخطورة الفراغ الناتج أولاً عن سوء إدارة سياسية ممارسة من رأس الهرم إلى القاعدة.
إنّ الحياة السياسية في لبنان وخصوصاً على مستوى مقاربة الاستحقاقات الداهمة تنطلق من قواعد شخصية ذات أبعاد خاصة وأُسُسْ غريبة عن الدستور والقوانين الدولية واللبنانية، وهذه الأُسُسْ لم يألفها أي نظام سياسي في العالم وهي أشبه بدكتاتورية منّظمة هدفها ضرب كل توافق على مقاربة ما لاستحقاق معين. إنّ الواقع الحالي للاستحقاقات الداهمة يؤسس لحركة فراغ قاتلة ضمن مؤسسات الجمهورية اللبنانية وواقع الحال يؤكد عملياً أننا لا نملك مسؤولين يمثّلون طموحات ومصالح الشعب اللبناني، والمسؤولين في لبنان هم كناية عن الأخ والصهر والمستفيد وتغليب الفساد على المصلحة الوطنية، كما أنّ هذا الواقع المرير وخصوصاً لناحية الاستحقاق الرئاسي يفتقد إلى مرجعيات وطنية نضالية تُحاول إخراج منظومة معينة لمعالجة هذا الفراغ.
في علم السياسة يوجــد مجموعات ضغط حـرّة مستقلة غير مرتهنة، وهذه المجموعات تُمارس دوراً إستراتيجياً في مقاربة أي استحقاق دستوري في الحياة السياسية حسب الزمان والمكان والظروف وهي أكبر مصدر لممارسة الحياة الديمقراطية الأصيلة. ويؤكد علم السياسة أنّ الدور المطلوب من هذه المجموعات المتنوّرة يعود بالطبع إلى ارتكانها لنصوص قانونية صرفة ومن الطبيعي أنْ تُسهم بتسهيل حركة إنتقالية ضمن الإطار الدستوري القانوني وفي هذا الإطار يجب معالجة موضوع الإستحقاق الرئاسي من باب العلم والقانون وليس من باب المصالح الخاصة والإملاءات الخارجية. من الطبيعي لا يكفي دراسة الوضع العام في البلاد من زاوية المصالح الخاصة والإنحناء نحو الخنوع بل الأفضل دراسة المنظومات السياسية والنتائج المحتملة لكل منظومة أي ما هي وسائلها وما هي نتائجها وما هي إستراتيجيتها؟ وإلى أي مدى يستطيع فاعلو التغيير أو الذين يُقاربون موضوع الإستحقاق الرئاسي مقاربته وفقاً للمصلحة العامة بما يعني بداية تصحيح الإعوجاج في ممارسة الديمقراطية على غرار ما هو معتمد في الأنظمة الديمقراطية؟
كباحث في الشؤون السياسية وتفرعاتها أحاول من خلال هذه المقالة ومن خلال جريدة «اللواء» الغــرّاء إيجاد نقاط إلتقاء في الاستحقاقات الدستورية الداهمة وتحديداً: رئاسة الجمهورية – حاكمية مصرف لبنان – قيادة الجيش – القضاء، وما يتفرّع من تعيينات ومنها على سبيل المثال تعيين القائمقامين… وهذه المقاربة يجب أنْ تكون وفقاً لمعايير محددة معطوفة على المواد الدستورية المتعلقة بشؤون هذه الإستحقاقات وفقاً لمفاهيمها التي تتعلق بنصاب الجلسات مثلاً وبشرعية الحكومة والمسؤولين المنوط بهم القيام بواجباتهم وفقاً للآلية الدستورية المنصوص عليها في الدستور اللبناني.
من خلال مقالتي هذه أتمنى من القرّاء الأعزاء ومن أصحاب المقامات الفكرية ومن رجال الدين وتحديداً غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، وسائر البطاركة، وسماحة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف فايز دريان، وسماحة رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بالإنابة الشيخ عبد الأمير قبلان، وسماحة شيخ العقل الشيخ سامي أبي المنى، وسائر القادة الروحيين، أنّ يتيّقنوا أنّ هناك فراغاً كبيراً على مستوى قادة الرأي العلمانيين كما أنّ هناك تحولاً كبيراً إستراتيجياً مهماً مطلوباً في ميزان القوى المحلية، وهناك ضرورة ماسّة لتغيير قواعد اللعبة السياسية والتي لم يجوز أن تبقى حصراً بيد قوى سياسية محلية، بل يجب أنْ ينضم إلى المسرح السياسي اللبناني لاعبون جُـدُد في مقدمتهم قادة رأي متنوّرين من جميع الطوائف والمذاهب لمقاربة أي إستحقاق داهم وخصوصاً إستحقاق إنتخاب رئيس جمهورية جديد.
إنتقال موازين القوى من قادة مرتهنين إلى قادة أحرار متنوّرين يجب أن تظهر ملامحه في أقرب فرصة متاحة وهذا الأمر يحرّك الواقع الحالي القائم على ستاتيكو أهلك الجمهورية بكل مفاصلها. المطلوب اليوم إمكانية تحقيق هذا التغيير في موازين القوى بصورة شبه متكاملة تتكافأ فيها فرص نجاح إنتخاب رئيس جديد للجمهورية وأختم لأقول إنّ لهذا التغيير ثلاثة أبعاد:
البُعد الأول: الإستراتيجية اللبنانية الصادقة المرتكزة على مبادئ الديمقراطية وعدم التفرّد في الرأي.
البُعد الثاني: سلوكي ينبع من مرونة وشمولية الفكر المتنوّر وحركة القوى الحيّة الفاعلة على المستوى اللبناني والإقليمي والدولي.
البُعد الثالث: هو بُعْد يُقيَّم أو يُقارب الإستحقاق الرئاسي من الناحية الوطنية الدستورية ومن دون تسييس.
فعلياً وعملياً وقانونياً ودستورياً آن الأوان لمقاربة الإستحقاق الرئاسي دون تسييس وللبحث صلة.