تُجمع الأوساط السياسية المتابعة للاستحقاق الرئاسي، على انّ الدعوات التي اطلقتها عواصم القرار العربية والدولية وتوجّتها القمة العربية الاخيرة في جدة للإسراع في انتخاب رئيس جديد، هي بمثابة النداء الأخير إلى كل القوى المعنية في لبنان، لحسم خياراتها وإنجاز هذا الاستحقاق الدستوري قبل اللجوء الى إطلاق النفير الذي لن يقوى أي فريق على معاندته اوعرقلته…
فهذه العواصم العربية والدولية عبّرت في وضوح عن انّها لن تتدخّل في الشأن الرئاسي اللبناني، لأنّها تعتبره شأناً داخلياً، على القوى السياسية اللبنانية المعنية ان تتفق على إنجازه وتأليف حكومة تنفّذ الاصلاحات المطلوبة شرطاً للحصول على الدعم العربي والدولي الذي ينقذ لبنان من الانهيار. وقد تجلّى ذلك في المواقف السعودية والفرنسية والاميركية والايرانية والعربية عموماً.
لكن كل هذه الدعوات الملحاحة لم يؤخذ بها عملياً حتى الآن، وخصوصاً القوى التي تعارض ترشيح رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، ولا سيما منها «التيار الوطني الحر» وحزب «القوات اللبنانية» وحزب «الكتائب» وبعض الكتل والنواب التغييريين، فهؤلاء لم يتفقوا بعد على مرشح او اكثر ينافس فرنجية في المنازلة الانتخابية التي يُحضّر مسرحها من الآن وحتى 15 حزيران، الموعد الذي اقترحه رئيس مجلس النواب نبيه بري، وأراد منه تحفيز الجميع على إنجاز الاستحقاق الرئاسي. وإذ شاع في بعض الاوساط انّ هذه القوى اقتربت من الاتفاق على أحد الوزيرين السابقين جهاد ازعور وزياد بارود، فإنّ ما ينكشف من الكواليس يدل إلى انّ انعدام الثقة في ما بين هذه القوى ما زال ضارباً أطنابه على رغم من كل التصريحات التي توحي باقتراب «ولادة» المرشح الموعود.
وتلفت هذه الاوساط، الى انّ ما قاله عضو تكتل «لبنان القوي» النائب الان عون قبل ايام، من انّ التفاوض انتهى وانّ «التيار الوطني الحر» لا يمكنه السير بمرشح لا يرتاح اليه الثنائي الشيعي، قد اصاب كبد الحقيقة، في الوقت الذي تسرّب من اوساط الثنائي أن لا مشكلة لديه في ان تختار المعارضة اي مرشح ينافس فرنجية ديموقراطياً تحت قبة البرلمان، لأنّ هذا الثنائي يرفض منطق الرفض، ويرى انّ لكل فريق الحق الديموقراطي في ان يرشح من يريد طالما انّ فرص التوافق على مرشح يلتقي حوله الجميع لا تزال غير متوافرة.
لكن بعض المتابعين للاستحقاق الرئاسي يرون انّ كل ما يحصل من تحرّكات داخلية خصوصاً على جبهة المعارضين لترشيح فرنجية، هو في وادٍ، وما يجري في المنطقة وخصوصاً بين الرياض ودمشق حول لبنان في وادٍ آخر، إذ لا توجد لدى المعارضين لفرنجية اي قراءة واقعية لما يجري في الاقليم عموماً، وعلى الخط السوري ـ السعودي وموقف المملكة العربية السعودية خصوصاً. إذ جاء ما نشرته صحيفة «الرياض» ليدل بوضوح إلى انّ الملف اللبناني فعلاً «كان ذا اولوية»، كما قالت الصحيفة في لقاء جدة بين ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان والرئيس السوري بشار الاسد. ويرى هؤلاء المتابعون انّ ما نشرته «الرياض» كان بمثابة «رسالة إلى من يعنيهم الامر» من القوى اللبنانية، على رغم مسارعة الصحيفة إلى حذف هذا المقال عن موقعها الالكتروني، ليبقى على نسختها الورقية وكذلك على صفحات الـ PDF.
وكان اللافت في ما نشرته الصحيفة التي يعتقد كثيرون انّها لا يمكن ان تبادر اليه من دون أي إيحاء معين هو «انّ الفترة المقبلة ستشهد حراكاً سعودياً ـ سورياً لحلحلة الأزمة اللبنانية بهدوء وحكمة، استمراراً لسياسة الرياض لتصفير المشكلات ولمّ الشمل العربي ومساعدة لبنان في التعجيل بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وتحديد الخطوات التي تسهم في إخراج لبنان من أزمته». وأضافت ناسبة الى مصادرها، «أنّ الحراك السعودي ـ السوري المدعوم عربياً وايرانياً، يهدف لسرعة إعادة تأهيل لبنان سياسياً والتمهيد لإنقاذه اقتصادياً». ولم تستبعد «احتمالية تشكيل وفد عربي رفيع المستوى مكوّن من عدد من وزراء خارجية الدول العربية لزيارة لبنان، لإرسال رسالة لكافة اللبنانيين، باهتمام الدول العربية بالأزمة وحث الأطراف لمعالجة الملف اللبناني بحكمة وإن يكون الحل لبنانياً- لبنانياً».
ad
في اعتقاد هؤلاء المتابعين، انّه إذا كان هناك من رسالة من خلال نشر هذه المعلومات، فإنّها بالتأكيد قد وصلت، وانّ الانظار ستتركّز على حركة السفير السعودي في لبنان وليد البخاري بعد عودته الوشيكة من المملكة العربية السعودية التي كان توجّه اليها قبيل قمة جدة.
وقد صبّ في هذا الاتجاه، ما اشار اليه الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله في خطابه لمناسبة «عيد المقاومة والتحرير» امس الاول، حول الاستحقاق الرئاسي، حيث أوحى انّ هذا الاستحقاق قد بدأ يقترب من الانجاز حيث قال: «في الملف الرئاسي، المطلوب المزيد من النشاط والمزيد من الإتصالات والمزيد من الحوار، نحن لسنا في قطيعة مع أحد في هذا الملف، نحن دائماً نقول لكل الأصدقاء وحتى غير الأصدقاء تعالوا لنتناقش في الخيارات الرئاسية ولكن بلا شروط مسبقة، فلنضع لائحة عليها كل الأسماء ونتناقش وليس بشرط مسبق إلغائي لأحد دون آخر، المعطيات الإقليمية وما يجري في المنطقة يدعو إلى التفاؤل كما قُلنا في الأيام الأخيرة، ننتظر أيضاً في الأيام القليلة المقبلة، قد يكون هناك ما يدعو إلى التفاؤل وإلى المزيد من التواصل لإنجاز هذا الملف».
على انّه وخلافاً لكل ما يُشاع، فإنّ الكواليس تعج باتصالات في مختلف الاتجاهات، دافعة في اتجاه خيارين: إما حشد الاكثرية المطلقة اي 65 صوتاً لفرنجية بالتزامن مع تأمين نصاب الثلثين لجلسة الانتخاب بدورتيها. وإما ان يذهب الجميع «راضين مرضيين» إلى جلسة يتنافس فيها فرنجية ومرشح او اكثر، لتكون فيها الغلبة لمن يفوز بالأكثرية النيابية سواء كانت مطلقة او اكثر.
إلّا انّه في حال ظل الاستحقاق في دائرة المناكفات والكيديات والتعطيل، فإنّ العواصم العربية والدولية المعنية ستطلق النفير الذي سيتمثل بضغط عربي ودولي مباشر او غير مباشر، لاستعجال انعقاد جلسة الانتخاب الرئاسي توافقياً او تنافسياً، تحت طائلة فرض عقوبات عربية ودولية على اي فريق يحاول تعطيل نصابها، علماً انّ هذه العقوبات كان السفير البخاري تطرّق اليها تصريحاً وتلميحاً، خلال اللقاءات التي عقدها في بيروت قبل انتقاله الى جدة لمواكبة اعمال القمة العربية والشق اللبناني منها.
وفي هذا السياق، يدور في بعض الاوساط السياسية همس عن انّ مروحة الاتصالات السعودية ستتوسع داخلياً قريباً لترجمة الأجواء العربية والدولية المحيطة بملف الاستحقاق الرئاسي، وقد تكون احتمالية تشكيل وفد عربي على مستوى وزراء الخارجية لزيارة لبنان الذي تحدثت عنها صحيفة «الرياض» مندرجة في هذا الإطار. ولم تستبعد هذه الاوساط ان يلعب الرئيس بري دوراً محورياً في هذا الاطار، وكذلك رئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» المستقيل وليد جنبلاط، لأنّ استقالته الحزبية لا تعني استقالته من العمل السياسي، بل من الملف الرئاسي الذي كان ولا يزال له باع طويل فيه منذ ان فُتح، فالرجل بما يعُرف عنه من براغماتية، يدرك في النهاية «من اين تؤكل الكتف» وكيف يمكنه اقتناص الفرص، وبالتالي لا يمكن ان يغرّد بعيداً عن اي إرادة عربية ودولية وحتى محلية وتأثيراتها في شأن مفصلي كالإستحقاق الرئاسي. ولكن على رغم من كل ذلك، ستبقى الأنظار منصبّة إلى حين على المعارضة و»التيار الوطني الحر»، لمعرفة اي دور سيكون لهما او لأي منهما في العير والنفير.