عاد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي إلى بيروت بعد زيارته حاضرة الفاتيكان وباريس. وسُجّل اللقاء الأبرز للبطريرك مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وتدلّ الإشارات الأولية إلى تغيير جذري في الموقف الفرنسي وإعادة الإعتبار للعلاقات التاريخية مع بكركي.
عندما سُئل وزير الخارجية اللبناني الراحل فؤاد بطرس عن مدى كشف رجل السياسة للأسرار المهمة، كان جوابه الشهير: السياسي يكشف 1 في المئة فقط من الأسرار المهمة والـ99 بالمئة ترحل معه. هذا في المطلق، أما بالنسبة للقاء الراعي مع ماكرون فيُعتبر من اللقاءات ذات الأهمية القصوى. وحسب بكركي أعاد هذا اللقاء الروح للعلاقات المارونية – الفرنسية، وتعود فائدته لفرنسا أولاً التي كان يجب أن تُصحّح مسار سياستها.
قال البطريرك الماروني كلمته في الإليزيه ومشى. وكان لهذه الكلمة الأثر الكبير إذ صحّحت الكثير من سياسة فرنسا. وأبلغ الراعي ماكرون بالإجماع المسيحي الذي حصل على اسم الوزير السابق جهاد أزعور، وكذلك بالإتفاق العريض الذي حيك بين المعارضة و»التيار الوطني الحرّ» وشموله مكونات وطنية وليس مسيحية فقط. وأفصح البطريرك للرئيس الفرنسي عن هواجسه وامتعاض المسيحيين من سلوك فرنسا الرئاسي وأبلغه بالحرف الواحد «هيك مش ماشي الحال».
لم يقصد الراعي باريس إلا بعد اتصالات فاتيكانية مع الإدارة الفرنسية هيأت للأجواء لكي لا يكون اللقاء مشحوناً. وأبلغ الفاتيكان ماكرون بأنّ كسر إرادة المسيحيين عبر تسويق مرشح مدعوم من فئة معروفة سيعني نهاية الدور الفرنسي ورفع منسوب التأزم، وبالتالي ساهم تدخّل الفاتيكان في تغيير الموقف الفرنسي والإنصياع للإرادة المسيحية.
وكانت باريس قد شكّلت «لولب» الحركة الرئاسية منذ تشرين الأول الماضي. وتخطت بحراكها الرئاسي المكوّن المسيحي. وساهم الرفض المسيحي وعدم وصول إشارات دولية مؤيدة لتبني باريس مرشّح «الثنائي الشيعي» رئيس تيار «المرده» سليمان فرنجية في فشل مبادرتها الرئاسية.
لم يقف الضغط على إدارة ماكرون فقط على الفاتيكان بل حطّ وفد من النواب المعارضين قبل وصول الراعي، في باريس وتمحورت اللقاءات حول الإصلاحات الإقتصادية والسير بخطة صندوق النقد الدولي من أجل الإنقاذ، وهنا دخل عدد من النواب على خطّ المساعي الفرنسية لإيصال فرنجية فأكدوا للمسؤولين الفرنسيين كيف يمكن لباريس الدعوة لإصلاحات والإتفاق مع صندوق النقد، من ثمّ تدعم فرنجية المنتمي إلى محور «الممانعة» المسؤول بشكل أساسي عن أزمة البلد.
إذاً، أراد ماكرون الخروج من مأزق ترشيح فرنجية وإطفاء غضب المسيحيين، فكان المخرج اللائق بتأكيده للبطريرك على أهمية دور بكركي وتسليمه شعلة زمام المبادرة الرئاسية على أن يدعم الفرنسيون خطواته مقابل عدم تأييد باريس مرشّحاً على حساب آخر.
ومن هذا المنطلق، وبعد التكليف الفاتيكاني والفرنسي، أعلن البطريرك أمام وفد نقابة الصحافة عن استعداده للحوار والتواصل مع الجميع من أجل إنجاز الإستحقاق الرئاسي ومن ضمنهم «حزب الله».
يعرف الراعي جيداً التوازنات القائمة في البلد، وهو يريد رئيساً لحل الأزمة لا أن يشكّل إنتخابه أزمة جديدة. ويعمل الراعي في حراكه الجديد وفق خطة طوارئ رئاسية على عناوين عدّة أبرزها:
أولاً: شمول المبادرة جميع القوى السياسية من دون استثناء والعمل على «لبننة» الإستحقاق.
ثانياً: يحاول الراعي الإستفادة من الدعم الفرنسي والفاتيكاني والضغط الدولي من أجل إنتخاب رئيس، وإلا ستفلت الأمور من أيدي اللبنانيين.
ثالثاً: سيركّز الراعي خلال إتصالاته ولقاءاته مع القوى السياسية على أهمية إحترام إرادة المسيحيين، فالجميع كان يدعو المسيحيين للإتفاق ومن ضمنهم «الثنائي الشيعي»، لذلك يجب عليهم إحترام هذه الإرادة.
رابعاً: سيركّز الراعي على التوافق بين جميع المكونات، لكن في حال فشل هذا التوافق الذي يجب منحه بعض الوقت، على رئيس مجلس النواب نبيه برّي الدعوة إلى جلسة عامة لتجرى العملية الإنتخابية وفق الأصول الديموقراطية والتعهد بعدم تعطيل النصاب.
خامساً: لن يدخل الراعي في لعبة الأسماء لأنّه بات لكل قوة مرشحها، فإذا توافقت كان به وإذا لم تتوافق فلتحكم صندوقة الإقتراع.
سادساً: سيشدّد الراعي على أهمية إستغلال جو الوفاق المسيحي الذي عمل عليه شخصياً منذ تكليفه المطران أنطوان بو نجم للقيام بهذه المهمة، ولا يريد للإتصالات أن تذهب أبعد من مسألة الإنتخاب خصوصاً إذا شعر المكون المسيحي بالهزيمة وعدم إحترام إرادته.
لا يريد الراعي هدر الوقت بل يرغب بملاقاة الإجماع المسيحي والضغط الدولي، لذلك ستكشف الأيام المقبلة إلى أين سيوصل الحراك الجدّي، وعما اذا كان «الثنائي الشيعي» سيقف بالمرصاد ويقول «الأمر لي»؟!