تُذكّر عبارة «ممانعة» اللبنانيين، بشعارٍ سابق أُطلق قبل أكثر من أربعة عقود، سُميَ «الصمود والتصدّي»، من دون أن يروا يوماً طيلة تلك المرحلة، صموداً أو تصدياً، وبوجه من؟ غير التسلُّط على الشعوب وقمعها… كما لخصها الشاعر الكبير نزار قباني في أحد أبيات قصائده حين كتب: «والحكم شرطيٌّ يسير وراءنا سرّاً… فنكهة خبزنا استجوابُ».
ممانعة اليوم هي أشبه بذلك الشعار «الصمودي» الأجوف. ممانعة من لمن؟ متى وكيف؟ إنها خالية من المعطيات الملموسة التي تُظهر زيفها، لتبقى وهماً يتاجر به أولئك الذين فرّخوا على جذور الموت السريري للصمود والتصدّي.
القوى التي تدّعي وهم «الممانعة» الإقليمية اليوم، تستظِلُها للتسلُّط على الداخل اللبناني. هي تركِّزُ اليوم هذا التسلُّط، على صناعة رئيس للجمهورية متناغمٍ مع طروحات الولي التي تبدأ في طهران من دون أن تنتهي في بيروت. تسعة أشهر مرت على الإستحقاق الرئاسي، والذي كان من المفترض أن ينتهي خلال ساعات بانتخاب رئيس، ولا تزال الممانعة في عز التصدي للإستحقاق.
عطّلت إحدى عشرة جلسة انتخاب، وأقفلت المجلس ستة أشهر بعدها أمام النواب الناخبين؛ وتدّعي بأنها لا تعطل الإستحقاق. يوم طفح الكيل أمام الرأي العام، الإقليمي والدولي، طرحت اسم مرشحها، وطالبت بقية القوى بالمنازلة في ساحة النجمة، رافعة عنها تهمة التعطيل. لكنها عادت إلى التعطيل بشروط أخرى تصعيدية حين قالت:
أولاً: الحق على المسيحيين لأنهم لم يتفقوا على رئيس. وكأنّ صناعة الرئيس في لبنان هي عمل مسيحي. فهل يوافق الممانعون فعلاً بأن رئيس الجمهورية يجب أن يكون صناعة مسيحية فقط؟ وهل الخلاف على الرئيس سببه طائفي أم سياسي؟ طبعاً سياسي بامتياز، لأنه خلاف على موقع لبنان ودوره… لذلك التهمة باطلة.
ثانياً: يوم اتفقت أغلبية المسيحيين وقوى معارضة على ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور، اعترض الممانعون على ذلك بأنه مرشح تحدٍّ، من دون أن تُفسِّر لنا هذه الممانعة، كما كل طروحاتها، تحدّي من لمن؟ متى وكيف؟ وهنا نسأل هؤلاء الممانعين: متى كانت الإنتخابات في الأنظمة الديموقراطية الحرة عبارة عن توافق وتراضٍ؟! أوليست هي تحدٍ في كل بلدان العالم؟ من تركيا بالأمس إلى أي مكان في أصقاع الأرض، وحتى في بلديات ونيابات لبنان؟! نعم نحن نعتبرها تحدّياً بامتياز، فلماذا تتخلفون عن التحدّي؟ وإذا استهلكوا عبارة تحدٍّ، يطالبون بأن يكون المرشح جدّياً؛ وهنا نسأل هل هناك صفة «جدي» مستحدثة لكل مرشح في لبنان، خاصة إذا كان يحظى بهذا العدد من المؤيدين؟! طبعاً لا. لكنهم يريدون تغييب الإستحقاق.
ثالثاً: ويأتيك من يقول: كيف لرئيس أن يُنتخب بغياب تأييدٍ ولو من نائب شيعي واحد؟ طبعاً ليس في هذا القول إدانة لنتيجة الإنتخاب، بقدر ما فيه إدانة للطائفة الشيعية التي تجاهر بهذا القول. فاختصار كلمة الطائفة تحقق بقمع الحريات داخلها، وشهود ساحتها كثر، وليس بممارسة الحريات كما في بقية الطوائف. ويتساءل اللبنانيون: لماذا التنوع متوفر عند كل المكونات الطائفية في لبنان، بينما هو ممنوع عند الشيعة في لبنان؟ هذه الحالة تضع اللبنانيين أمام مسلَّمةٍ تقول: في لبنان مجتمعان مختلفان، أحدهما لا يؤمن بالديموقراطية ويمارس القمع ضمن طائفته؛ والثاني، أي بقية اللبنانيين يمارسون الحرية وينتجون التنوع. ما يضعنا أمام لبنانين مختلفين حول مفهوم الديموقراطية، أحدهما يحمل السلاح بينما الآخر أعزل، بحيث يصعب الجمع بينهما تحت سقف وطني واحد.
رابعاً: إذا سلّمنا بنظرية الممانعة، فهذا يعني نقل النظام في لبنان من ديموقراطي حرّ إلى نظام أوليغارشي، تتحكم فيه الأقلية بمصير أغلبية اللبنانيين. إذ يكفي أن يتحد أحد مكوناته، ولو بالقمع والتسلُّط، ليتحكم بقرار الأغلبية وإلغاء الديموقراطية.
إستناداً لما تقدم، يمكن التأكيد بأن لا رئيس للجمهورية في لبنان بأغلبية برلمانية، إنما بقرار من الحرس الثوري الإيراني، أينما كانت الأغلبية. فهل هذا هو لبنان الذي يريده رئيس المجلس النيابي؟
طبعاً الرئيس نبيه بري، كما يعرفه اللبنانيون، وطني، لا يؤمن بمبادئ الحزب التأسيسية، لكنه أسيرها. والإستمرار بهذه المنهجية، قد يؤدي إلى زوال لبنان. حتى أنّ أحد أقطاب الممانعة، هدّدَ حديثاً بالعودة إلى 31 آب من عام 1920، أي قبل إعلان دولة لبنان الكبير في الأول من أيلول عام 1920 على لسان الجنرال الفرنسي غورو، وهو يقصد بذلك إلحاق قسم من جغرافية لبنان بسوريا. فهل يخفف الرئيس بري من هواجس الممانعة التي تسكنه لإنقاذ لبنان؟ وإلاّ فطرابلس الشام لا تزال تدغدغ بعض العقول المريضة؛ فاسألوها أولاً قبل إطلاق المواقف.
في الخلاصة إذا بقي الحزب متمسكاً بدويلته، فماذا ينتظر اللبنانيون ليؤسسوا دويلة أخرى على ما تبقى من أرض لبنان، ليبنوا بعدها لبنان الواحد من إتحادين؟
(*) نائب سابق في تكتل «الجمهورية القوية»