IMLebanon

يعرفون ما يريدون ويتحركون من أجل أن يأتي من يريدونه

 

هم يعرفون من يريدون والآخرون يعرفون من يُريدُ الأوَّلون، ولكنهم لا يرغبونَ بما يريدهُ الأوّلون، والأوّلون يتحرَّكون من أجل أن يأتي إلى سُلَّمِ الرِّئاسةِ من يريدون، والآخرون يُرشِّحون من بينهم له رمزيَّتُهُ كي لا يُؤتى بمن يُريدُهُ الأوَّلون؛ والحقيقةُ أنهم لو كانوا مُختلفين لكنا اليومَ كشعبٍ مُتَّفقينَ موحَّدين. والشَّعبُ يَعرِفُ أن المَصلَحَةَ اللُّبنانيَّةَ العُليا لا تتمثَّلُ في انتخاب من يُريدُهُ الأوّلون ولا من يُرشِّحُهُ الآخرون، ولكنَّهُ مُستسلِمٌ خانعٌ قابعٌ في منازِلِه لا يَتحرَّكَ من أجلِ أن يؤتى بمن يُمكنُ ائتِمانهُ على الدُّستور. والشَّعبُ يعرفُ أيضاً أن ما أهلكَ الوطن وقوَّضَ الدَّولةَ سِوى تلك الإصطفافاتِ المَقيتةِ ما 8 و14 آذار، وكأنه لم تكفِهِ تلك الاصطفافات لتُستحدثَ اصطفافات إضافيَّة منها السِّياديون والمُمانعون، والثوريون والمُستقلون، اصطفافاتٌ عقيمةٌ لم يجنِ لبنان منها سِوى التَّعطيلِ السِّياسي والانهيارِ الاقتِصادي والمالي، والعُزلةِ الإقليميَّةِ والدَّوليَّة، وسيلٍ من الأزماتِ المُتعاقِبَة.

 

سياسيو لبنان، ودَّ كلُّ فريقٍ منهم لو كان بمُستطاعِهِ حَجبَ الأوكسجين عن خُصومِهِم السِّياسِيين ولفعلوا ذلك، لقد أتقنوا لُعبَةَ عَضِّ الأصابِع، فاعتمدوها في مًقارباتِهِم لمُعظمِ الاستِحقاقاتِ الدُّستوريَّةِ الأساسِيَّة، وبخاصَّةٍ انتخاباتِ رئيس الجُمهوريَّةِ وتشكيلِ الوزاراتِ وتَسمِيَةِ الوزراءِ على ما يُسمَّى بوزاراتٍ سياديَّةٍ وازنةٍ وأخرى خدماتيَّةٍ مَلِّيئة؛ اقتصرت إجازاتهم على إبرامِ الصَّفقاتِ المشبوهة، وعُطِّلت بإدارتِهم كُلَّ المرافقِ الحيويَّةِ في الدَّولة، وأصبَحَ الشَّعبُ يفتقِدُ إلى أدنى مقوماتِ الحياةِ، وعاجزٌ عن توفيرِ حاجِيَّاتِه اليوميَّة، إذ لا كهرباءَ ولا ماءَ ولا محروفات، ولا تجهيزات طبيَّةٍ في المُستشفياتَ ولا دواء في الصَّيدليات ولا أموال في المصارف، ولا موظَّفين مداومينَ في إداراتِ الدَّولةِ ومؤسَّساتها العامَّةِ حتى لم يعد بالإمكان توفيرُ الزِّفت لترقيعِ الطُّرقات… الخ، وإن توفَّرَ بعضٌ من ذلك لم يَعُد بإمكانِ اللبنانيين الحُصولِ على أيٍّ من تلك الحاجِيَّاتِ الأساسِيَّةِ التي أضحت بالنِّسبةِ إليهم بمثابةِ كَمالِيَّات.

سِياسِيو لبنان لا يَستشعرون المَخاطِرِ المُحدقةِ بوطَنِهم، عَفواً بالبلدِ الذي يَحملون جِنسيَّته، لأن مُيولَهُم إمَّا خارِجِيَّة وإمَّا فِئويَّة، وأهواءَهُم إمَّا سُلطَوِيَّةِ وإمَّا ماليَّةٍ أو كِليهما. لقد احتكروا السُّلطةَ لعقودِ وحَرِصوا على توريثِ المناصِب، وتملَّكوا من الأشياءِ ما يَصعُبُ حصرُه، وتَمَلَّكوا من العِقاراتِ ما ليسوا بحاجَةٍ لإشغالِهِ ولا استِغلاله، واكتنزوا من الأموالِ ما لا يستطيعون تبذيرَهُ هم وأبناؤهم وأحفاُدُهم وأبناء أحفادِهم وأحفادِ أحفادِهِم ورُبَّما لِعشرَةِ أجيالٍ قادِمَة. وبدلاً من أن يَهرُبوا للخارِجِ ويُخلوا مناصِبَهم هرباً من العدالةِ هَرَّبوا أموالَهُم للخارِجِ ويدفعون بالقُضاةِ الشُّرفاء للهرب من قُصورِ العَدالَة، وها هم يقفون مُتفرِّجينَ على تفليسَةِ للدَّولَةٍ لم يَشهَدِ العالمَ بأسرِهِ بفظاعَتِها، الدَّولةُ أفلِست ولم يبقَ سِوى إشهارُ إفلاسِها، وأضحت مُتعثِّرةً غير قادِرَةٍ على الإيفاءِ بالتِزاماتِها المادِّيَّة، بعد أن نُهِبت خَزينتُها واغتُصِبت عِقاراتُها، وسُطِيَ على أموالِ المودِعينَ في المَصارِفِ بالإشتراكِ مع أعضاءِ مَجالِسِ إداراتِها، وبدَّدَ احتياطي البنكِ المركزي بالتَّنسيقِ مع حاكِمِه. سياسيونا اليَومَ يَطرَحون أنفُسَهُم كمُنقِذينَ إصلاحيين نَهضَويينَ مُمانِعين سِيادِيين، وجُلَّ ما يتمخَّضُ عن إبداعاتِهم في مُقارَبَةِ الأزماتِ يقتصرُ على استجداءِ المُساعداتِ وطَلَبِ المَزيدِ من القُروضِ وإغراقِ الشَّعْبِ بالدُّيون لعشرَةِ أجيالٍ قادِمَة.

الاستحقاقُ الرئاسيُّ كان من المُفترضِ أن يكون عِرساً ديمقراطِيَّاً كما هو الحالُ في الدُّولِ ذاتِ النِّظامِ الجمهوري البرلماني الدِّيمقراطي، إلاَّ أننا في لُبنانَ في خِضَمِّ عِرسٍ من نوعٍ آخرَ لا يمُتُّ إلى الدِّيمقراطيَّةِ في شيء، عِرسٌ تحتفي به جَوقاتُ زَجلٍ وقرَّادَةِ ومُعَنَّى وعَتابا ومُهرجين مُحترفين، حيثُ البُطولاتُ الوَهمِيَّة، وكُلٌّ يُغني للَيلاهُ والحفلَةُ في بدايتِها، ورُبما سَتطولُ أشهراً ورُبَّما سَنواتٍ قِيَاسَاً على ما شَهِدناه من حفَلاتٍ دُستورِيَّةٍ مما خلَا. وحدَهُم التَّغييريون كالأطرشِ في الزَّفةِ لا يَفقَهون ما قيلَ ويُقالُ، يَظنُّونَ أنَّهم مُشارِكون، وسُلوكِيَّاتَهِم في المجلِسِ النِّيابي أشبه بسلوكِيَّاتِ دويك في المدينة.

بدأ حَفلُ الزَّفافِ قبلَ اختيارِ العريس، وكأني بأهلِ العروسِ (لبنان) يَبحثونَ عن عَريسٍ غَفلَةَ يُمحي عارَ ما اقترفَهُ أهلُ العَروسِ بها من شَناعات، فبدوا وكانَّ كُلّاً منهم يُريدُ عَريساً مِطواعاً له، يَستطيعُ تَحميلُهُ نَسبَ الجنينِ الذي هو على وشكِ الوِلادةِ، رغم أنه لم يزل مَجهولَ الجِنسِ «فتنةٌ طائفِيَّة، أم نِزاعٌ مَذهَبي، أم حَربٌ أهلِيَّة، ولكن ثَمَّةَ قاسِمٌ مُشتركٌ واحِدٌ هو الخرابُ والانهيارُ وتردِّي الأحوال.

عَجَباً لأمرِنا نحن اللبنانيين، عَروسُنا جَميلٌ شَوَّهناه، وغنِيٌّ أفقرنَاه، ووَسَطِيٌّ طَرَّفناه، ومَحبوبٌ في وَسَطِه العربي فكرَّهناهم به، ومُحترمٌ على المُستوى الدَّولي فأهملناه، ويَستأهلُ التَّضحِيَّةَ من أجلِهِ فخَذلناه. ومن جِنسيَّتِه العَربيَّةِ جَرَّدناه، ونسعَى إلى تَجنيسِهِ بجنسيَّاتٍ أعجَمِيَّةٍ أو فارِسِيَّةٍ أو أيَّةِ جِنسِيَّةٍ زَحفلوطانيَّةٍ، دأبُ بعضِنا إسقاطِ جِنسيَّتِهِ العَربِيَّة، لا لشيء إنما نِكايَةً ببَعضِنا البَعض.

 

دعونا نَستذكِرُ التَّاريخَ القَريبَ قبلَ البعيد، بلدُنا أخرَجَهُ العُربُ، الذينَ نقذِفُهُم بما لَيسَ فيهم، من نَفَقِ حَربٍ أهلِيَّةٍ دامَت قُرابَةَ عَقدينِ من الزَّمن، وأعادَهُ التَّفرُّسُ، المُفتَرِسُ على إخوانِه، إلى حالَةٍ تُشبِهُ إلى حدٍّ كبيرٍ ما كانَ عليه قُبيلَ تلك الحَرب، ورُبَّما نُساقُ طَوعاً إلى حُروبٍ عبثيَّةٍ كالتي عُشناها وعاشَها آباؤنا، وربما سنَعيشُ ما تبقّى من عُمرنا فيها، وسيُعيدُ الكَرَّةَ أبناؤنا.

أيُّها السِّياسيون المُخضرَمون، أنقِذوا شرَفَ العَروس «الوَطن»، وفتِّشوا لها عن عَريسٍ يليقُ بها، بمزايا وطنيَّةٍ إنقاذيَّة حياديَّةٍ وسطيَّة، عريسٌ يَصونُ شَرَفَها، ويَحمِي سِمعَتَها، ويُحصِّنُها من انتِهاكاتِ أقرَبِ المُقرَّبينَ لها، عريسٌ قادرٌ على لمِّ شملِ عائلَتهاِ، وقيادةِ قِطارِ النُّهوضِ، الذي وحده القادرُ على إخراجِنا من أتون جَهَنَّمَ، ويُعيدُنا إلى حيثُ كُنا بأقلِّ خَسائرَ مُمكِنَة، عَلَّنا نَنعَمُ مُجدَّدا بجنَّةٍ شرق أوسَطِيَّة، لُقِّبت في الماضي بسويسرا الشَّرق، وكانت مَوئلاً للحَرف، ومَدرسَةً لتعلّيمِ الحُقوقَ، التي فَقدناها كمواطنينَ مُنذ أن أخَلَّينا بواجِباتِنا تِجاهَهَا، واستَعضنا عن الأُصولِ باجتِهاداتٍ خُزَعبَلاتيَّة، وعن النُّصوصِ بأعرافٍ ظَرفِيَّة، وعن الأدبيَّاتِ بكِلامٍ سِياسِيِّ من الزُّنارِ ونازِل.

ثمَّةَ من يُنادي اليومَ بمِعيارٍ رئاسي مَفادُهُ «رئيسٌ لا يَطعَنُ المُقاوَمةَ في الظَّهرِ» معيارٌ وطنيٌّ لا غُبارَ عليه، وإن انطوى على جانبٍ تَخويني لبعضٍ ممن أعلنَ ترشُّحُهم، بل نضيفُ إن صونَ المقاومةَ الوطنيَّةَ حقٌّ وواجِب على كُلِّ لبناني صادقٍ وشَريف؛ ولكن أليسَ من الأَحَقِّ والأوجَبِ إعمالُ هذا المِعيارِ «عدمُ الطَّعنِ في الظَّهر» على إطلاقِه؟ ألم يحن الأوانُ بعد لأن يُفسَّرَ للشَّعب سَببِ إدانَةِ مَحكمَةٍ دولِيَّةٍ لثلاثةِ مَسؤولين في المُقاوَمَةِ باغتيالِ من كانَ شرَّعها وأسقطها من قائمةِ المُنظَّماتِ الإرهابيَّة ولَطالما كان ظَهيراً مَنيعا لها؟ وإن كان لا بَدَّ من طمأنةٍ فلتكن طمأنةٌ للشَّعب بأن ما حصلَ في 7 أيَّار لن يتكرَّرَ، ولن يَعتبره البعضُ يوما مجيداً ومُباركا. أقولُ هذا ليس من قبيلِ نكء الجِراحِ، إنما من قبيل المُصارَحَة، والحِرصِ على السِّلمِ الأهلي، ولم الشَّملِ وإصلاحِ ذاتِ البين بين مختلفِ المُكوِّناتِ اللبنانيَّة.

وأنهي على أملِ أن يُشكِّلَ كلامي هذا تَحفيزاً للعُقولَ لا للفُجور، وللضَّمائرِ لا للغَرائز. نحن جميعاً مطالبونَ بأن نَرضَى للغير ما نرتضيهِ لأنفُسِنا، وعلينا أن نعي قبل فواتِ الأوانِ أن الأمورَ لن تستقيمَ في بلدِنا، قبلَ أن نعتادَ على الاحتِكامِ لأصواتِ ضَمائرِنا، ونلتزِمَ بروحِيَّةِ دستورنا، ولا نَخرُقُ قوانيننا، وعلينا التَّسليمُ بأننا مُجتَمَعٌ مُتَنَوِّعٌ في توجُّهاتِه ولكن فليكن غِناهُ في تنوُّعِه، وما علينا سوى السَّعيُ الصَّادقُ للعيشِ سويَّاً كمُواطنينَ مُتساوينَ في الحُقوقِ والواجِبات، وإلاَّ عبثاً نُحاولُ ترقيعَ الأمورِ بتبريرِ هفواتِنا وأخطائنا وسَيِّئاتِ سُلوكِنا.